أكبر منافينا هي في الذاكرة التي لا رجعة منها إلا إليها، والمنفى كما يقول إدوارد سعيد «لا معنوياً ولا واقعياً» وهو ليس بريئاً تماماً من لحظة اختطافنا مما نعرف، أما أصعبها فهي تلك التي نختارها بإرادتنا الحرة في عزلة روحية، يختارها الفرد ليقول أو ليكتب قصته كما يجب أن تكتب، وهو يعلم أن العالم في حالة عدم اكتراث حتى يحين موعد الفراق الأبدي، فيحيا وحده، ويحلم وحده، ولا يدري كيف يمكن أن يعوض خسارة كهذه.
«إنه شكل من أشكال اليتم» يقول إدوارد سعيد، ولكن أليست تلك أزمة الفرد أين ما كان في عصر الأشياء الذي يعكس تعلق الجموع المرضي بالسلع، وهنا قد يكون المنفى الطوعي خياراً حكيماً، وطريقة مثلى لإجبار الآخرين على رؤية ما لا يرى، في ضباب قوامه الحداثة والعولمة، وديدنه السيولة الفكرية والأخلاقية.
أما المنفي المبدع، فهو مضطر لابتلاع وصفته الوحيدة لفهم العالم، وتحمل تبعات محنته الاختيارية لتتحول «ثيمة» الضياع الأبدي الموصوم بها أهل المنافي، إلى شرط من شروط إثراء العمل الأدبي والفني، وتصحيح الأوضاع على أمل يلوح في الأفق، في أن يعود أسير موقفه على صهوة الانتصار كأبطال الملاحم القديمة.
وربما ولدت هذه المحنة الإنسانية عصراً كاملاً من الأدب الجم والإنتاج الفكري والثقافي، حتى أن المفكر والناقد الأمريكي جورج ستاينر لم يتورع عن اقتراح نظرية تفيد بأن الأدب الغربي الحديث هو «أدب مهجر» بامتياز، فهو أدب عن أهل المنفى وبأقلامهم، بل هو عن كل أولئك الذين قضوا دون أن يعرف العالم قصصهم أو يسمع أصواتهم.
وينادي شاعر الحنين إلى قهوة الأم وخبزها محمود درويش «أنا المنفي خلف السور والباب، خذيني تحت عينيك، خذيني أينما كنت، خذيني كيفما كنت» وفي ذلك النداء الشعري علاج للواعج اليتم حباً وحناناً، رغم اليقين باقتلاع الصلة بين الأرض والفرد، وانقطاعها بين الجسد وطين أقدام الأمهات، ورغم الإدراك أخيراً أن هذا السعي إلى تشكيل أرض تشبه أرض المهد وتربتها ورائحتها تحت الشمس هو عبث يجر إلى عبث، إلا أن الشاعر مقتنع والشعر مقنع بأنها الطريقة الوحيدة «ليذكر جيلنا الآتي مساره إلى البيت» فتلك أهم احتياجات الإنسان الروحية في هذه الحياة «أن يمد جذوره» وهي أقل ما تعترف به عولمتنا العاصفة.
ينظر المنفي بعد أن ربته الغربة على الحكمة لكل التجارب وكأنها على وشك الزوال «فالرجل الذي يجد في كل تراب وطناً فقد صار قوياً» كما يرى فيكتور هوغو -أحد أعظم المنفيين في تاريخ الأدب الرفيع- وهو قوي بوعيه متعدد الأبعاد وبفهمه للمسائل خارج النظام المألوف ليتحقق «وعي النغمة وصداها ونقيضها» التي ما أن يألفها الفرد حتى يتفجر قوة وحياة ووطناً.
جريدة الخليج