هو العمل الفني الكبير الذي خلّد اسمه، وهو أيضاً الذي قتله قبل ستين عاماً. كان النحات العراقي جواد سليم دون الثانية والأربعين من العمر حين أودت به أزمة قلبية. ولم يكن نصب الحرية قد اكتمل ليتصدر ساحة التحرير في بغداد. وبعد كل الويلات، ما زال العراقيون يعتصمون بذلك الصرح الفني كلما ضاق فضاء العيش والحرية.
أعطيت للفنان الحرية الكاملة في تصميم الأشكال النحتية التي تروي نضال فئات الشعب كافة في سبيل الحرية، باستثناء منحوتة الجندي العراقي التي أريد لها أن تمثل مقاتلاً يرتدي البزة العسكرية ويحمل السلاح، من دون شطحات تجريدية أو حديثة. وسافر جواد إلى إيطاليا لتنفيذ العمل؛ إنها البلد الأشهر في صب البرونز. ولم يشأ أن يترك زوجته الإنجليزية لورنا وحيدة في بغداد مع طفلتيهما، فسافرت العائلة كلها معه. استأجر مشغلاً في جادة «فيا دي آرتيستي» في فلورنسا، وكان صب المنحوتات يجري في بلدة بستويا القريبة.
عدا العمل الفني، كان على جواد أن ينشغل بأمور جانبية، مثل شراء البرونز، وتأمين الرخام الخاص بالجدارية. أصيب بالإرهاق، وأثقلت عليه المسؤولية المالية. بات قلقاً لا ينام الليل. وراودته شكوك بأن هناك في السفارة العراقية في روما من يحاول الاستحواذ على أموال من وراء ظهره، بل وصل به الحال إلى الشك في وجود من يتآمر عليه لمنعه من إنجاز نصب الحرية، ومن يدبر لاغتياله.
اضطرت لورنا إلى أخذ زوجها إلى المستشفى. وبعد أسبوع، تحسنت صحته واستعاد هدوءه، لكن الإدارة منعت خروجه لأن القانون يمنع مغادرة مصحات العلاج النفسي قبل مرور ثلاثة أشهر على علاج المريض. ولم تتحرك السفارة لأن المريض موجود في إيطاليا في مهمة من تكليف الزعيم عبد الكريم قاسم. لا أحد يجرؤ على التدخل من دون إذن من الزعيم. وعلى عجل، جاء من بغداد المعماري رفعة الجادرجي، صاحب فكرة الجدارية، وتولى على مسؤوليته إخراج صديقه جواد سليم من المصحة.
عاد الفنان إلى منحوتاته يشتغل عليها بالحماسة السابقة. حاول اختصار الزمن ليعود إلى بغداد سعيداً بإنجاز صرح لم يحظَ أي فنان عراقي بما يماثله حجماً وموقعاً. ولم يكن ذلك العمل يخص جواداً وحده، ولا رفعة الجادرجي الذي رعى المشروع من البداية حتى الاكتمال، ولا النحات محمد غني حكمة تلميذ جواد الذي كان شاهداً على ولادة المنحوتات في فلورنسا، ولا لورنا الزوجة الفنانة التي ظلت تؤازره طوال عام ونصف العام. لقد أدرك كل فنان عراقي من أصدقاء جواد وتلاميذه أن نصب الحرية يخصّه بشكل من الأشكال.
وضعت المنحوتات على الأرض، فوق رصيف ساحة التحرير، في انتظار تعليقها. وتحمس النحات خالد الرحال وتسلّق الجدارية، وتفرج على القطع من مكانه المرتفع وهلل إعجاباً. ولحق به جواد لكي يلقي على عمله نظرة من علِ. وكانت النظرة الأخيرة. أصيب بذبحة صدرية في الصباح التالي. سكت قلبه على سرير في المستشفى الجمهوري في الثالث والعشرين من يناير (كانون الثاني) 1961. وكانت معه لورنا تحمل قنينة المغذي، وصديقاه الطبيبان سالم الدملوجي وخالد القصاب. ثم جاء خالد الرحال وصب طبقة من «الجيبس» على وجه الراحل لكي يحفظ له «قناع الموت». وهو القناع الذي تحتفظ به أسرة محمد غني.
خرج جثمان الفنان من أكاديمية الفنون الجميلة محمولاً على سيارة نقل. وسار في جنازته الطلاب والطالبات مرتديات السواد. وبعد ذلك، أشرفت لورنا سليم على تعليق المنحوتات، ورُفع الستار عن نصب الحرية وصاحبه غائب.
جربدة الشرق الاوسط