أكد الناقد الأردني د. جمال مقابلة، أستاذ الأدب الحديث ونقده، أن الحياة المعاصرة تتسع لكل المستويات من الكتابة، والأدب الذي تركه المعاصرون من الأدباء ما زلنا نتمتع به، وبجمال إبداعه، وننهل منه حتى اليوم، ولا يمكننا أن نحكم على عصرنا بخلوه من الأدباء كما يدعي البعض، فالعرب صنعوا أدباً رائعاً، مشيراً إلى الأساتذة النقاد، الذين لا يتحققون إلا في ظل دوحة الإبداع الحقيقي، منوهاً بأنه لا بد أن يولد بين القراء نقاد، لافتاً في السياق إلى أن الإبداع العظيم والفن السامي يخلقان الذوق العالي لدى القراء، ويعد الدكتور المقابلة من أبرز النقاد العرب، الذين دَرّسوا في جامعة الإمارات العربية المتحدة، فكان لصحيفة «البيان» معه الحوار التالي:
كونك ناقداً أدبياً، ولديك مؤلفات نقدية، أين وجدت فن الابتكار على مستوى الأدب العربي المعاصر؟
الأدب العربي المعاصر اصطلاح ممتد على مرحلة زمنية، وعلى رقعة جغرافية واسعة، فلا شك في أن ما فيه من ابتكار وإبداع وتميز كثير، من خلال أعلام الشعراء والكتاب من روائيين وكتاب قصة ومشتغلين في الفنون الأدبية الكثيرة، ولا أجد نفسي بحاجة لأن أسمي؛ فمن العرب المعاصرين من وصل إلى نوبل «نجيب محفوظ» وجوائز عربية وعالمية عديدة «مثل جوخة الحارثي في حصولها على المان بوكر»، وترجمت أعمال أدبية عربية إلى عشرات اللغات في العالم المعاصر، ولكن ذلك لا يعني أن كل ما ينشر في العالم العربي يمكن أن يطلق عليه الابتكار المتميز، فالتميز صفة تطلق على القليل، وأقل القليل، كما في إبداعنا العربي المعاصر.
لدينا في عالمنا عناوين مكررة في مؤتمراتنا، وليس كما لدى الغرب مؤتمرات بعناوين مختلفة مثل مؤتمر الشغف الأدبي، والعاطفة الأدبية وخطاب الوفرة.. ماذا تقول عن كل هذا الوداد؟
ليس من العدل أن نتحدث عن مؤتمراتنا العربية في سياق المقارنة بالمؤتمرات الغربية، وذلك لاختلاف البيئتين، ولتباين الظروف الموضوعية، التي تقام في ظلها هذه المؤتمرات. إن العالم العربي يعيش ظروفاً متعددة، تصبغ منجزه الثقافي والأكاديمي والتنظيمي للأدب أو الفكر والثقافة بصبغة قد لا تكون مشابهة لما لدى الأمم الأخرى في هذه اللحظة الراهنة، ومع ذلك فإن دولاً عربية متعددة استطاعت المؤسسات التعليمية والهيئات الثقافية فيها أن ترسي تقاليد محمودة في سياق المؤتمرات والمهرجانات والاحتفاليات والجوائز، كما نرى ذلك في تونس والمغرب ومصر والأردن ودول الخليج العربي على سبيل المثال.
كيف تصنع نقداً أدبياً للنص؟
الكتابة الفنية المبتكرة هي التي تحفز القرّاء لأن يصيروا نقاداً مهرة، ويكاد النص الأدبي يوجه الناقد إلى الاتجاه المناسب لدراسته وتحليله، ومن هنا صار للأدب مدارسه الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية والحداثية، ونشأت في ضوئها اتجاهات النقد المتعددة الشكلية والجمالية والتاريخية والنفسية والبنيوية والأسلوبية والواقعية والحداثية، وما بعد الحداثية، والتفكيكية واللسانية والعرفانية وتحليل الخطاب وغيرها.
هل ترى في الحاضر ثمة «أُميّة» في الكتابة الإبداعية؟ وأُمية في الأستاذية؟ وما الذي يصنع الناقد الحقيقي؟
إن الأمية في الكتابة الإبداعية- إن وجدت- حَريّة بأن تولد أمية في القراءة وفي النقد، وبالضرورة فإنها لن تكون مجالاً لإنجاب الأساتذة في النقد. إن النقاد لا يمكن أن يتحقق وجودهم إلا في ظل دوحة الإبداع الحقيقي.
نلاحظ أن القراءة بصوت عال تشكل وعياً جديداً ومعرفة دقيقة بفلسفة اللغة «لغتنا»، فما رأيك؟
من محاسن هذا الزمان أنه أتاح لنا سماع شعرائنا المعاصرين يصدحون بأصواتهم وقصائدهم، كما أتاحت لنا وسائل التواصل الحديثة سماع المعاصرين ينشدون الشعر القديم، أما أنا فبت آنس للاستماع إلى الروايات والكتب المتعددة، من خلال التطبيقات المسموعة بمنصاتها المختلفة، ولعمري فإن هذا لإشراق للغتنا العربية وإحياء لها أيما إحياء..
نعترف بأن ما يقتلنا هو التكرار شعراً ورواية وقصة، لكن هذا الأمر طبيعي، وحدث في كل العصور… برأيك لماذا كل هذا الإنكار الاستعراضي للنقاد ومسؤولي الثقافة، على الإصدارات الجديدة في كل محفل؟
يجب ألا يختلط علينا أمر النشر الأدبي الكثير جداً من شعر ورواية وقصة ومسرح في هذا العصر، حيث نجمت كثرة ذلك عن سهولة الطباعة وإتاحة النشر بوسائل حديثة قليلة التكاليف، وسريعة الانتشار وإغراءات الفوز بالجوائز والمنح والهبات من الداعمين لتشجيع الإبداع، فليس لدينا الصلاحية لنوقف نشر أي كتاب بحجة التكرار أو تدني المستوى الفني أو القصور عن المواصفات المطلوبة نقدياً، لأن الحياة المعاصرة تتسع لكل المستويات والنماذج من الكتابة، والإبداع الناجمة عن كثرة الناس وكثرة الكتاب الأصلاء وغير الأصلاء، المبدعين وغير المبدعين، الذين يحق لهم أن يرموا بأسهمهم في هذا الباب أو ذاك، وأن يحلموا بالشهرة واتساع رقعة القراءة وحصد الجوائز، فالواجب في هذه الحال أن تنهض جبهة ثقافية متكاملة في مجتمع اللغة أو الإقليم أو الدولة أو الجماعة المحددة الملامح لتصنف الكتاب والكتابة في مستويات متعددة ومتباينة، حيث تتناسب مع شرائح المجتمع وطبقاته بمستوياتها اللغوية والثقافية والعمرية والذوقية، التي تتواءم مع نتاجات إبداعية موازية لها أو مناسبة لأذواقها.
لماذا لم يعد لدينا في الأدب المعاصر أدباء كبار مثل أولئك الذين كتبوا وأثروا العصور كلها بعيداً عن منابر المجاملة؟
اسمحي لي أن أختلف معكِ حول صياغة هذا السؤال! هل يمكن أن نحكم على عصرنا هذا بخلوه من الأدباء الكبار، ونحن ما زلنا نعيش في كنفه ومع أدبائه؟ فلا العصر انقضى ومضى حتى نقيم ما كان فيه! ولا اكتمل إنجاز الأدباء المعاصرين لنصدر بحقهم حكماً كالذي ذكرتِ! فكيف لنا أن ندرك مدى الأثر، الذي تركوه في معاصريهم أو من جاؤوا بعدهم، ونحن ما زلنا نعيش بين ظهرانيهم، وما زالوا يمتعوننا بجميل إبداعاتهم إلى هذه الساعة، ورحم الله الراحلين منهم، فليس عهدنا بنجيب محفوظ وإدوارد سعيد ومحمود درويش ببعيد.
جمال المقابلة لـ «البيان»: الحياة المعاصرة تتسع لكل مستويات الكتابة