رحل الروائي جبور الدويهي مثلما أفاد عنوان مجموعته القصصية الأولى التي افتتح بها عهده مع الكتابة “الموت بين الأهل نعاس”، وبدا موته، محاطاً بأهله في بلدته الشمالية أهدن، أشبه باستسلام للنعاس الأبدي بعد ما أفقده المرض قواه الجسدية. هذا العنوان، مقولة تُردد في البلدة الشمالية وتدل على معنى الحيطة العائلية حتى في لحظات الاحتضار، وعلى أن الإنسان فرد في جماعة تنتمي إلى مكانها. هذه المعادلة، رافقت معظم أعمال الدويهي الروائية، وكانت واحدة من خصائصه السردية الرئيسة.
استهل جبور الدويهي مساره الروائي قاصاً، وأصدر مجموعته الأولى “الموت بين الأهل نعاس” عام 1990، وبدت موضوعات هذه القصص بمثابة مدخل إلى الموضوعات التي سيتطرق إليها لاحقاً في رواياته، وكذلك مناخها الأهلي الذي اتسع وترسخ في صنيعه الروائي وقضايا التحول الاجتماعي والتاريخي الذي شهده المكان الذي يركز عليه الدويهي، سواء كان بلدة أو قرية أو مدينة (بيروت أو طرابلس). ويمكن الكلام عن الأسلوب السردي المتراوح بين الواقعية والتخييل والفانتازيا، الذي شكلت القصص منطلقه وتجلى في الروايات. ظلت هذه المجموعة القصصية يتيمة، فالدويهي ما لبث أن أصدر بعد خمس سنوات روايته الأولى “اعتدال الخريف” (1995) التي غدت فعلاً عملاً مهماً، ينم عن خبرة الدويهي في فن السرد وعن ثقافته العميقة في الأدب الروائي، وهو جاء أصلاً إلى الكتابة السردية من عالم التخصص الأدبي (دكتوراه من جامعة السوربون) والتدريس الجامعي للأدب الفرنسي والنظريات النقدية. وكانت هذه الرواية بداية مسار امتد نحو ربع قرن أصدر خلاله الدويهي تسع روايات، رسخت مشروعه الروائي المتفرد بنفسه وبخصائصه الأسلوبية وقضاياه الاجتماعية والإنسانية وأسئلته التي تشمل أزمات الجماعة والفرد الذي ينتمي إليها ومشكلات الهوية والانتماء. وخلال مساره الإبداعي، انصرف الدويهي إلى كتابة الأبحاث الجامعية والمقالات بالعربية والفرنسية، مرافقاً الحركة الثقافية والأدبية اللبنانية والعربية والعالمية. فهو كاتب مزدوج اللغة (بيلنغ) لكنه قصر اللغة الفرنسية على المقالات والأبحاث، بعد ما حاول كتابة قصص بالفرنسية وعدل عنها، فهو لم يجد نفسه إلا في اللغة العربية المنفتحة على الروح المحلية واللغة العامية ومخزونها التعبيري. واللافت أن الدويهي بدأ الكتابة السردية متأخراً بعض التأخر، فأصدر روايته الأولى في الخامسة والأربعين، في سن النضج، ما جعل عمله الروائي متيناً وراسخاً وبعيداً كل البعد عن مضارب البدايات ومشكلاتها.
لعبة التجريب الروائي
اعتمد جبور الدويهي في روايته “اعتدال الخريف” لعبة التجريب الروائي في مفهومه الحديث واختار صيغة اليوميات ليدون تأملاته وانطباعاته والوقائع التي يواجهها “البطل” يوماً تلو يوم. بل هو دفع بطله (الراوي) إلى تدوين تلك التأملات والانطباعات والوقائع، عبر أيام متقطعة تثبتها التواريخ التي تحتل مطلع اليوميات. وقد وجد الكاتب في ذاك الراوي ما يشبه قرينه، فحمله مشقة التدوين وتوارى خلفه بعد ما ألقى عليه تبعة الكتابة. وهذه لعبة خطرة وجميلة ينفصل عبرها الكاتب عن أناه ليكتب يومياته بحرية وجرأة، عبر الراوي. هكذا تغدو اليوميات داخل الرواية نوعاً أدبياً بامتياز، بعد ما خلع الكاتب عنها الطابع التسجيلي والآني وحررها من وطأة الوقائع ورتابة السرد. وكما دفع مثلاً جان بول ساتر بطله روكانتان في “الغثيان” إلى كتابة يومياته، دفع جبور الدويهي بطله الذي لا يحمل اسماً إلى كتابة يومياته.
حملت هذه الرواية خدعة سردية جميلة: الكاتب يكتب يوميات الراوي مخضعاً إياه لوجهة نظره ومتدخلاً في تفاصيل يومياته وكأن الراوي ليس إلا شخصية روائية تعترف وتبوح بما خبرت وعانت وشهدت طوال فترة زمنية محددة هي فصل الصيف. لكن الشتوة الأولى التي زامنت نهاية اليوميات جعلت الراوي يتذكر أن ملامح الشتاء بدأت تظهر، وأن اعتدال الخريف بات وشيكاً عبر “التوهج البرتقالي الذي ليس إلا نذيراً للنهاية”. تحفل الرواية بالشخصيات والمرويات والحكايات الصغيرة والتفاصيل، ومن أبرز تلك الشخصيات شخصية الراوي نفسه، وعنه نعلم في سياق يومياته أنه كاتب (فاشل) أو مشروع كاتب، مثقف يهوى القراءة، سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ليتخصص في الهندسة الميكانيكية فعاد بشهادة في العلوم الإنسانية. يتحدث الراوي عن خاله روفائيل وعلاقته بصالة سينما “رويال” وعن العم منصور الذي يوقن أن الحياة سلسلة من الكمائن، وعن الجدة، والأم، والعمة، والأخت، وعن لارا الأميركية، والست إميلي صاحبة شجرة البنفسج وزوجة رئيس البلدية…. شخصيات طريفة بطباعها وسلوكها، تحيا في الماضي، ولا تحيا ماضيها، أما حاضرها فغائب لأنها رهن حكاية الراوي الذي يحاول أن يكون كاتباً.
بعد هذه الرواية توالت أعمال جبور الدويهي وفق إيقاع زمني لا هو بالسريع ولا بالبطيء، رغم أنه كان يشعر في قرارة نفسه بأنه تأخر زمنياً، لكنه كان يرفض التسرع، بل كان يولي عمله كثيراً من الأناة والتؤدة. بعد ثلاث سنوات أصدر روايته “ريا النهر” (1998) وبدت مهمة أيضاً، في مناخها وأسلوبها السردي وشخصياتها الطريفة التي تنتمي إلى البيئة التي يمكن وصفها بـ”الدويهية”. تنطلق رواية “ريا النهر” من حادثة غرق الرسام موسى في النهر في ظروف غامضة، لم تتضح بتاتاً. هذا الغرق يفتح أمام ريا بوابات الذاكرة على مصراعيها، فهي كانت قدمت غرفة والديها للرسام موسى، صديق العائلة القديم العائد من غربته الطويلة، وبدا كأنه فقد القدرة على إنجاز لوحاته التي كان بدأ رسمها. بعد غرق موسى، يتخلى الأقارب عنه ويتغاضون عن البحث عن سبب غرقه. لكن ريا، صاحبة المقهى الذي يقع على ضفة النهر، تجد نفسها منقادة إلى شخصية موسى وأسرارها. وفي المطعم تروح تسترجع سيلاً من الحكايات، حكاياتها وحكايات البلدة، فيبدو هذا الماضي ماضي جماعة وأفراد ومكان.
من المقهى إلى البيت العريق
في رواية “عين وردة” (2002) يحل محل المقهى (رمز المكان) منزل قديم منسي وشبه مهجور ما برح يقطنه شخصان من الأسرة العريقة المالكة، أسرة باز، هما رضا وشقيقه جوجو، إضافة إلى بضع شخصيات منها زوجة جوجو النمساوية. يعيش هؤلاء الأشخاص حالاً من الصراع ، يبدون فيه عنيفين بعض العنف، عاطفيين، عبثيين وغير مبالين، يتذكرون أمجاد العائلة ويرفضونها في آن. في هذه الرواية تترسخ مرتكزات الفن الروائي لدى الدويهي: المكان بصفته بلدة أو مدينة أو مقهى أو منزلاً، والجماعة بصفتهم الأهلية، وهم إما زعماء وأثرياء ووجهاء، وإما فقراء ينتمون إلى العامة. يتحاب أفراد الجماعة أو يتخاصمون ويتواجهون في ما يشبه “الاحتراب” الأهلي.
هذه المواصفات تتجلى في رواية “مطر حزيران” (2006) التي تسرد وقائع معركة حقيقية شهدتها كنيسة إحدى البلدات المسيحية في الشمال اللبناني في 16 يوليو (حزيران) 1957 وشارك فيها أقارب وأهل، منقسمون على بعضهم، فسقط عدد كبير من القتلى والجرحى. تقدم الرواية شخصية شاب يدعى إيليا الكفوري، العائد من المغترب الأميركي بحثاً عن خفايا مقتل أبيه في تلك الواقعة الأهلية المأساوية، وكانت أمه سافرت به إلى أميركا، هرباً من أجواء الكراهية التي تسيطر على البلدة.
في رواية “شريد المنازل” (2010) يدخل جبور الدويهي أجواء الحرب الأهلية اللبنانية جهارا من خلال حكاية شخص مزدوج الانتماء، وشبه منفصم وحائر في تحديد هويته الطائفية. فهو مسلم بالولادة لكنه نشأ في بيت أسرة مسيحية حدبت عليه ومنحته كثيراً من المحبة، يضاهي ما منحته إياه عائلته الحقيقية. هذه الشخصية المنقسمة بين انتماءين تمثل رمز بلد وتاريخ وهوية تشهد حالاً من الانفصام المضمر والمعلن في آن واحد. شخصية تواجه ويلات الحرب الأهلية وجرائمها من موقع “البين بين” الذي يمثل عقدة مستعصية على الحل. إنها تختصر فعلاً أزمة المواطنين المزدوجي الهوية، الذين كانوا ليمثلوا واقعاً طبيعياً لو لم تقع الحرب الأهلية والطائفية التي عممت الكراهية والحقد. وبعد أن يغيب جبور الدويهي عن الحرب اللبنانية في روايتيه “طبع في بيروت” (2016) و”ملك الهند” (2019) يعود إليها في روايته الأخيرة التي صدرت قبل شهر من وفاته وإنما في طريقة مختلفة، وهي “سم في الهواء”. إنها رواية الشاب الذي يدعى بطرس (من غير أن يعلن هذا الاسم مباشرة) والذي تنتقل أسرته من القرية إلى بيروت هرباً من الاحتراب الأهلي في الشمال. يلتحق بالجامعة اللبنانية ويعيش أجواء التحولات السياسية والاجتماعية التي تشهدها بيروت عشية الحرب الأهلية وغداتها، ويجد نفسه منساقاً في أحد الأحزاب اليسارية المشاركة في الحرب. لكنه يفشل في حياته الحزبية ويسعى إلى الارتباط بزميلة له في التعليم الثانوي، مسلمة. وهنا تبرز مجدداً مسألة الهوية المنفصمة طائفياً واجتماعياً. لم تخل هذه الرواية من الطرافة وحتى السخرية والفانتازيا ومن الشخصيات الغريبة الأطوار التي تحيط بهذا الشاب الذي يعيش حالاً دائمة من الحيرة الوجودية.
واقع مدينة طرابلس
في رواية “حي الأميركان” (2014) يفاجئ جبور الدويهي قراءه في دخوله عالم مدينة طرابلس (عاصمة الشمال اللبناني) سارداً حكاية يتجاور فيها ويتقابل عالمان (أو بيئتان)، الأول هو “حي الأميركان” البائس الفقير الغارق في العشوائية والانجراف الطائفي، والعالم الثاني هو قصر آل العزام الواقع في أحد الأحياء الراقية. الفتاة “انتصار” ابنة العالم الفقير تخدم في القصر بقدر من الرضا، مما يوحي بإمكان التعايش بين أهل الحيين المتناقضين. لكن “انتصار” تفاجأ باختفاء ولدها فتكتشف أنه تم تنجنيده في تنظيم “القاعدة” وأرسل للقيام بعملية انتحارية في العراق.
في رواية “طبع في بيروت” (2016) تحضر المطبعة التي تمثل أحد وجوه لبنان الثقافي وبصفتها المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية. فريد شاب في الثلاثين ينتقل مع والدته من قريته إلى بيروت، حاملاً مخطوطة شعرية يبغي طبعها في كتاب. يجوب دور النشر ولا يلقى ترحاباً، إلى أن يقصد مطبعة آل كرم العريقة، فيختاره صاحب المطبعة للعمل في قسم التصحيح اللغوي. هنا تحدث المفاجأة عندما تقع في حبه زوجة صاحب المطبعة فتنشر كتابه على ورق مخصص لتزوير العملة الأوروبية (اليورو)… ثم تتوالى مفاجآت طريفة ومتخيلة.
في رواية “ملك الهند” (2019) يسترجع الدويهي جو رواية “ريا النهر” بطرافتها وحبكتها البوليسية الخفيفة ويسرد قصة زكريا مبارك الذي وجد مقتولاً برصاصة في كرم المحمودية عند حدود قريته تل صفرا (شرق بيروت) في ظروف غامضة، بعد أيام على عودته من غربة طويلة بين أوروبا وأميركا وأفريقيا. عاد زكريا وفي جعبته لوحة “عازف الكمان الأزرق” للرسام العالمي مارك شاغال، التي أهدتها له صديقته الفرنسية. ومن خلال التحري عن الحقيقة يستعرض الراوي محطات تاريخية عدة، منها حوادث 1860 الدامية التي وقعت بين الدروز والموارنة في تل صبرا، وما أعقبها من هجرة أشخاص كثيرين إلى أميركا وأوروبا هرباً من الموت. ومن القصص المستعادة قصة جدة زكريا التي تدعى فلومينا، وهي كانت عادت من أميركا ثرية ومحملة بالمال والذهب، وبنت بيتاً واشترت كرم المحمودية من مالكه الدرزي، ويقال إنها أخفت الذهب تحت البيت الذي بنته.
يستحيل اختصار عالم جبور الدويهي الشاسع والمتعدد الحكايات والقضايا والشخصيات والتقنيات والأساليب، هذا العالم الذي تفرد به الروائي، وبناه رواية تلو أخرى. ولكن من الواضح أن عالم الدويهي يقوم على ركائز معينة وخاصة به. ففي هذا العالم يحضر المكان في كافة تجلياته (مقهى على النهر، منزل عائلة عريقة، حي فقير، بلدة، مطبعة) وبه يرتبط الأشخاص ارتباطاً رحمياً، فهم أبناؤه، يغادرونه ليعودوا إليه (الشخصيات المهاجرة التي تعود)، وتحضر الجماعة بصفتها المرجع الروائي الذي تنطلق منه الحكايات الحقيقية والمتخيلة وتتعدد علاقاتها بين صراع وتآخ وود وكراهية تقود أحياناً إلى ارتكاب جرائم قتل. وقد نجح الدويهي في توظيف هذه الركائز وصنع منها عالماً روائياً نادراً ما يذكر بعوالم روائيين آخرين، على الرغم من تأثره بجو غبريال غارثيا ماركيز (يوميات موت معلن) والروائي الصقلي ليوناردو شاشا وجورج شحادة (مهاجر بريسبان) وسواهم.
ترجمت روايات جبور الدويهي إلى لغات عالمية عدة كالفرنسية والإنجليزية والإيطالية وسواها، ولقيت ترحيبا لدى النقاد والقراء، وبلغت روايات له القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية، لكنه لم يفز بها، وهو، كما قال عنه الروائي المغربي أحمد المديني، “أكبر من البوكر”.
www.independentarabia.com