من هم أعلام الفكر، المنارات البوصلات، في ميراثنا الثقافي؟ ننطلق من حيث انتهينا أمس. أمس ضربنا مثلا القمم الهداة في ميراث الصين الثقافي. هي ذي فرنسا، التي تعج بالفلاسفة الأحياء، قرابة ستمئة، لكن الذين رحلوا ولم يغيبهم الموت، مفكرين وفلاسفة، ظلوا أشد حياة وحيوية من الأحياء: مونتانيو، ديكارت، روسو، فولتير، مونتسكيو… نحن ميراثنا الثقافي وأعلامه العظماء، وضعناهم على الرفوف، في أحسن الأحوال في متاحف، والذين أفل حظهم، كان مأواهم المستودعات في الدهاليز.
يسيء العرب إلى هويتهم حين يقطعون امتدادها إلى ماضيهم، ويفصلونها مقومات وجودهم وحضورهم في الزمان والمكان عن تاريخ الانتماء الفكري. هذه هي علة «الثقافة العربية» السائدة منذ عقود، التي جعلت الشخصية العربية نمراً ورقياً، يرتجف أمام أدنى نفخة تهب من بلاد الخواجات، والخواجات أحوج المحتاجين إلى نفحات من القيم الحضارية ذرتها رياح تغول المدنية. المؤسف هو القطع الصارم مع الروافد الثقافية التراثية الرفيعة، كعناصر أساسية لمقومات الحياة في الحاضر والمستقبل.
بالمثال تُفتضح الحال: سنأخذ مبدئيا ثلاثيا بلا نظير، وعليك أن تقول لنا ما سر التناقض المزري بين كثرة المؤلفات في شأن هؤلاء، وبين غيابهم المطلق عن الحياة العامة في كل مفاصلها وتفاصيلها: المعرّي، ابن خلدون وابن رشد. هذا الثلاثي خليق بأن يؤسس عليه بنيان ثقافة صلبة. أبو العلاء لا يوجد له نظير في كل ميراثنا الثقافي كركن ركين لحريات الفكر والرأي والتعبير. في هذه المجالات، مناهله زاخرة ثرة ثرية، لا بد من أن تُستقى من «اللزوميات»، «رسالة الغفران»، و«رسالة الصاهل والشاحج». لن (لن التأبيد الزمخشرية) تجد له بديلاً في تلك الميادين. في مدرسة المعرّي يكون للعربي عقل نفاذ ثاقب النظر، عقل له كرامة وجودية وسيادة حياتية. مع الأستاذ عبدالرحمن بن خلدون نتعلم كيف نجري فحوصاً سريرية شاملة على معطيات المجتمع وملابسات وقائع التاريخ، فالأيام ليست صفحات يطويها الأفراد والمجتمعات؛ بل ميادين فعل وتفاعلات قوى. أما ابن رشد، فهو الأستاذ الفذ الفرد في معادلة التوازن بين العقل والروح، طلباً للإيمان العاقل الواعي، ودرءاً للتطرف الذي لا يستقيم معه البحث العلمي والمشاركة في القرارات المصيرية والانفراج الاجتماعي.
لزوم ما يلزم: النتيجة القياسية: الثقافة التأسيسية تُخرج أمثال الثلاثي من الرفوف، تعيدهم إلى الحياة العامة. قس عليهم، وللقلم عودات بإذنه.
جريدة الخليج