تصفية حساب مع التماثيل – بقلم هيثم الزبيدي

هيثم الزبيدي
المنتقمون من سود وبيض على حد سواء لا يزالون يكتفون برشاشات الصبغ وعلب الألوان والاحتجاج اللفظي والتجمع لحين تحرك البلديات لاقتلاع تماثيل “سادة العبيد” و”ناهبي الأمم”.

الفراعنة فنانون تشكيليون عباقرة. لا أعرف إن سبقهم السومريون أو الأكاديون أو الآشوريون أو البابليون في العراق، فلست بتلك الخبرة في تاريخ الفن التشكيلي في عصور ما قبل الميلاد. لكن حين تتأمل تمثالا فرعونيا في المتحف البريطاني، لا تكتشف فقط أن النحات أضفى لمسة حداثية على الوجه بأن أخرجه من التصوير المباشر للشخصية، بل احتاط بشكل كبير لتغيرات الزمن والسياسة. تمثال فرعون اليوم هو مشروع تخريب للغد. يأتي الغزاة أو الانقلابيون ويستهدفون تماثيل المرحلة أو المراحل السابقة.

قارن بين تماثيل رومانية مر عليها الغزاة وأخرى فرعونية. سترى التماثيل الرومانية مقطعة الأوصال: أيادٍ وأذرع مبتورة ورؤوس مقطوعة ومن نجا منها جدع أنفه. تصفية حسابات مع شخصيات وأباطرة سادوا ثم بادوا. النحات الروماني كان يريد أن يبهر سيد زمانه بجمالية العمل. النحات الفرعوني كان أذكى ولا شك أنه بذل جهدا كبيرا في إقناع الفرعون بأن يصنع له تمثالا ضاما لذراعيه وأفنص الأنف وعمليا بلا رقبة. احتال أكثر فحرص على إلباس التماثيل غطاء الرأس الفرعوني الشهير ليجعل الرأس كتلة أكبر وامتدادا للجسم. كتلة متماسكة من الصعب الاعتداء عليها بسهولة إلا بجهد “هندسي” من الأزاميل والمطارق. وحتى بعد كل هذا لن يشفى غليل المهاجم، فيمل من مقاومتها التشويه ويتركها. التماثيل الرومانية، على العكس، تتكسر بسهولة و”تعالج” بكفاءة الحالة النفسية الانتقامية للمهاجم. التماثيل الفرعونية، أو تلك التي تجسد الحاكم السومري الجالس، لا تبدو وكأنها تتأثر بضربات المطارق. على المهاجم أن يبحث عن تنفيس لأحقاده في مكان آخر.

التماثيل من أثاث المدن، خصوصا في الغرب. أعدادها تخنقك في بعض المدن الأوروبية. اذهب لروما وستجد تمثالا في كل مكان. في الدول الغربية الكبرى ذات التاريخ الاستعماري القريب، تزيّن تماثيل القادة الفاتحين والشخصيات السياسية المهمة، الكثير من مداخل المباني والحدائق العامة. هذا جنرال فتح تلك البلاد وهذا سياسي ربح الحرب. أضف إلى ذلك المغامرين من رجال أعمال عهد الاستعمار. هؤلاء شخصيات يمكن أن ترجم بالحجارة لو عاشوا في يومنا الراهن. لكنهم كانوا “فخر” عصورهم. تاجروا بكل شيء وباعوا واشتروا بالناس. تجار عبيد أفرغوا مدنا من ناسها وشحنوهم على سفن إلى العالم الجديد ليشتغلوا في مزارع القصب والتبغ، أو تحكموا بدول أشبه بالقارات كما هو الحال في إمبراطورية الهند.

حركة الاحتجاج التي استثارتها قسوة الشرطة بحق رجل أسود في الولايات المتحدة فتحت الباب لمحاكمة عصور الاستعمار المخجلة. المنتقمون من سود وبيض على حد سواء لا يزالون يكتفون برشاشات الصبغ وعلب الألوان والاحتجاج اللفظي والتجمع لحين تحرك البلديات لاقتلاع تماثيل “سادة العبيد” و”ناهبي الأمم”. لم يصل الأمر إلى تقطيع أوصال التماثيل بعد، ولكن المؤشرات لا تبشر ببقاء هذه التماثيل في أماكنها، وسيكون مريدوهم محظوظين إذا انتهت في متاحف منسية بدلا من ورش صهر البرونز أو في قاع نهر قريب.

الدفاع عن تلك الشخصيات المجسدة في تماثيل في أماكن عامة غير مجد. القول بأن الحكم عليهم بمسطرة تاريخهم لا يكفي. الإنسانية تقلب دفاترها.

أمام موجة مثل التي نراها اليوم، لن تجدي حتى عبقرية الفراعنة. نصيحة لكل زعيم سياسي ورجل أعمال: لا تبهدل صورتك بعد أن تموت وتتركها بشكل تمثال.