حين شبّ حريق في كاتدرائية نوتردام في باريس، كتبت الصحف أن قلوب الفرنسيين انكسرت حزناً. وكسرة القلب وصف مجازي من اختراع الشعراء.
وهو شائع بسخاء في أحاديثنا. وكنت أظن أن قلوب الغربيين تشتغل بإيعازات من عقولهم. يحترق صرح عزيز من صروحهم، فينصرفون إلى إعادته مثلما كان. بعد ذلك، يأتي دور الذاكرة الشعبية لكي تهضم البناء الجديد وتتآلف معه.
أتى الحريق على أهم جزء في المبنى، سهم الكاتدرائية. وهو برج خشبي من تصميم المهندس أوجين فيوليه دوك. إن تشييده بارتفاع 96 متراً كان مغامرة معمارية شجاعة يومذاك. وقد كان لتداعي البرج تحت ألسنة اللهب وقع على الباريسيين يشبه تأثير انهيار برجي التجارة على سكان نيويورك. واليوم، تتسابق مناطق فرنسا لتقديم الأخشاب التي ستستخدم في بناء برج مماثل. وتم قطع ألف شجرة سنديان، حتى الآن، تُركت جذوعها لتجفّ وتصبح صالحة للبناء.
جرى، قبل يومين، احتفال في الغابة المحيطة بقصر «سالي»، وسط البلاد، بمناسبة قطع شجرة بلوط تمهيداً لإرسالها إلى ورشة نوتردام. وجاء في أوصاف جذعها أنه ليس بالغ الطول، بل يمتد لقرابة 15 متراً. كما أنه ليس بالغ السمك ولا يزيد قطره على 65 سنتمتراً، لكنه في المقابل قويم مستقيم الخطوط. لهذا، فإنه صالح للمهمة تماماً، وتنطبق عليه الشروط كافة. فقد وضع المهندسون والنجارون دفتراً للأوصاف والشروط المطلوبة. هذا واجب قومي ولا يمكن القبول بأي شجرة تأتي من أي غابة. لذلك احتفل حطابو مقاطعة «لواريه» وأهاليها بهذه المساهمة.
يقول المثل العربي «وراء الأكمة ما وراءها». فقد جاء في تقرير للمجلس البلدي أن نسبة كبيرة من أشجار قصر «سالي» مصابة بفطريات تنهشها من الداخل. وهناك 80 بلوطة قيد القطع. منها ما هو ميت بالفعل، ومنها ما يعاني من هشاشة الجذور وهو مهدد بالسقوط. لكن المجلس طمأن الورشة: إن الشجرة الذاهبة إلى البرج سليمة وكانت في عز شبابها. ما حكاية الأكمة؟ جاء في تفسير الأمثال أن شابة اتفقت مع حبيبها أن تلتقيه وراء الأكمة، أي التل، لكن أهلها شغلوها وتأخرت عن الموعد. وحين غلبها الشوق، قالت: «حبستموني، وإن وراء الأكَمَة ما وراءها».
احترقت الكاتدرائية في ربيع 2019. وتشابكت عشرات الآراء حول ترميمها. تدخلت مكاتب عمارة محلية وأجنبية ومنظمات دولية في الموضوع. أدلى طفيليون بدلائهم. واستشار إيمانويل ماكرون مساعديه وقدّم وجهة نظره. وكعادة الفرنسيين، اعترضوا على رأي الرئيس. وكانت التقديرات تشير إلى أن ورشة الترميم تحتاج لخمس سنوات على الأقل. وطبعاً، فإن الكلفة باهظة. وكان الأمل جمع مليار يورو من الهبات الوطنية والدولية. وأبدى 350 ألف مانح أريحيتهم. انتهى المحققون من أعمالهم والسؤال ما زال قائماً: حريق بعقب سيجارة أم بتماس كهربائي؟ جاءت «كورونا» وتوقفت ورشة الترميم. ثم تراجعت وعاد النشاط إليها. إن الموقع يشبه حالياً غابة من الرافعات والسقالات والخلاطات. وتكتب الصحافة عن فهد العنداني، العامل العربي الماهر الذي يساهم في ترميم الكاتدرائية. فمن بين 300 سائق رافعة وقع الاختيار عليه مع زميله كريستوف، وفق شروط تقضي بأن يكونا من ذوي الخبرة وبأتم صحة.
ذلك أنهما يتحركان فوق منصة ترتفع 75 متراً. وفهد في الثانية والثلاثين من العمر، نزل إلى ورشات البناء وهو دون العشرين. يوصف بأنه «العامل البشوش الذي لا يعرف الدوار، ويكون في أحسن حالاته وهو معلق في الارتفاعات الشاهقة في مهب الريح».
جريدة الشرق الأوسط