إن باريس كلها لم تُخلَق إلا للنساء، وكل تجارة باريس هي في الهدايا التي تقدم للنساء. ما عليك يا صاحبي إلا أن تمشي قليلاً في أي شارع من شوارع باريس، فإنك ستجد عشرات الحوانيت التي تعرض ما تشتهي لصاحبتك من حقائب اليد، وصناديق البودرة، والقبعات، والجوارب، والعطور، والزهور. وقد مضى أن نصحنا لك في هذا ولم تقبل النصح.
كان هذا هو رد الفرنسي أندريه على رسالة صديقه محسن، الذي جاء من مصر للدراسة في باريس، والذي جعل منه الكاتب والأديب المصري توفيق الحكيم بطلاً لروايته الشهيرة «عصفور من الشرق».
كان محسن قد وقع في غرام شابة فرنسية، ولأنه قادم من ثقافة شرقية مغرقة في الخيال، كما يصفها أهل باريس وقتها، فقد كان فاقداً القدرة على التصرف. حاول صديقه أندريه وزوجته جرمين مساعدته، ولكنه لم يكن يعرف حتى اسم الفتاة التي وقع في غرامها. قال له أندريه:
– إنك رجل خيالي، وهذه مصيبتك.
قالها وهو ينظر إلى جرمين، فأمّنت على قوله برأسها وأضافت:
– من غير شك، لا سبب عندي لفشل محسن غير أنه خيالي أكثر مما ينبغي، والمرأة لا تقنع بالخيال، بل بالحقيقة.
لم يعترض محسن، وقال في إذعان:
– وأين هذه الحقيقة؟ دلاني على هذه الحقيقة التي أكسب بها عطف المرأة.
قالت جرمين:
– أتريد أن تعلم أين تجد هذه الحقيقة؟
– نعم أخبريني أين هي، وأنا لا أنسى لك أبداً هذا الجميل.
– إنها تشترى بالثمن.
– كم الثمن؟ كل حياتي فيما أعتقد.
– بل عشرون فرنكاً فقط!
– أتمزحين؟!
– بل أقول جَدّاً. عشرون فرنكاً فقط، تشتري بها من حانوت شارع «هوسمان» زجاجة عطر «هوبيجان» صغيرة، وتقدمها إلى صاحبتك في الصباح. هذه هي كل الحقيقة. فهمت؟
دار بعد ذلك حوار بين محسن وأندريه وجرمين، عرف من خلاله الزوجان الفرنسيان أن صديقهما المصري وقع في غرام عاملة شباك التذاكر بمسرح أوديون، الذي كان يختلي إليه كثيراً، فقال أندريه:
– أتسمع نصيحتي يا محسن؟ اذهب غداً وقدم إليها طاقة من الزهر، ثم ادعها إلى العشاء في مطعم من المطاعم.
تفكر محسن قليلاً، ثم قال:
– وإذا لم تقبل مني بطاقة الزهر؟
فقالت جرمين من فورها:
– لا يوجد امرأة في باريس ترفض طاقة من الزهر!
بقية الأحداث في الرواية التي صدرت عام 1938م، وتمت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية عام 1946م، لتصبح واحدة من أشهر الروايات التي تتحدث عن الفرق بين الشرق والغرب، اللذين قال عنهما الشاعر الإنجليزي روديارد كبلنغ: «الشرق شرق والغرب غرب.. ولن يلتقيا»، وذلك من خلال تجارب الطلبة العرب الذين كانوا يذهبون للدراسة في فرنسا، وقد كان توفيق الحكيم واحداً منهم، إذ أرسله والده إليها عام 1925 لنيل درجة الدكتوراه في الحقوق، ولكنه انصرف عن دراسة الحقوق إلى الأدب المسرحي والقصص، وتردد على المسارح الفرنسية ودار الأوبرا، فاستدعاه والده بعد ثلاث سنوات من إقامته هناك من دون أن يحصل على الشهادة، ليكسب الأدب العربي كاتباً وأديباً كبيراً، وتخسر الحقوق محامياً كان على الأرجح سيكون عادياً.
التجربة نفسها خاضها، بشكل مشابه تقريباً، الأديب اللبناني سهيل إدريس، مؤسس مجلة «الآداب» وصاحب «دار الآداب» للنشر. فقد درس سهيل إدريس في كلية الشريعة، وتخرج فيها شيخاً فقيهاً. ولكنه تخلى عن زيه الديني، وسافر إلى فرنسا ليتابع دراسته العليا في جامعة سوربون، وعاد منها بشهادة الدكتوراه في الأدب العربي، وكتب روايته المعروفة «الحي اللاتيني» التي تشكل مع رواية توفيق الحكيم جناحي طائر يحلق بنا في هذا النوع من الأدب الذي يرصد مرحلة مهمة من تاريخ النهضة الأدبية العربية. رواية «الحي اللاتيني» صدرت عام 1953 متأخرة 15 عاماً عن رواية «عصفور من الشرق» بحكم الفارق بين عمري الأديبين توفيق الحكيم وسهيل إدريس، وإن كانتا تصبان في مجرى واحد؛ هو حياة الدارسين العرب في فرنسا في المرحلة التي كُتِبت فيها الروايتان، وتأثرهم بالحياة الفنية والأدبية والفكرية والسياسية التي كانت في أوجها آنذاك في فرنسا.
هنا ربما تبدو عبارة «إن باريس كلها لم تُخلَق إلا للنساء» لا تمثل الحقيقة كاملة، فقد ظهر لنا من خلال أدبائنا، الذين ذهبوا للدراسة في عاصمة النور وعادوا لنا بهذه الروايات الجميلة، أن باريس خُلِقت للفن، والأدب، والثقافة، والفكر، والعلم، والسياسة… والحب أيضاً.
جريدة البيان