لفت نظري أن عبارة في كتاب يتناول وقائع تاريخية شطبت، للدقة محيت، بحبر أسود داكن، ولم تفلح محاولاتي في معرفة ما هي العبارة، التي كان أحد بواعث الفضول لمعرفتها آتياً من أن مؤلف الكتاب توفي قبل عقود من الزمن.
لا تاريخ مدون لصدور طبعة الكتاب التي بين يدي، ما يزيد الحيرة: أيكون المؤلف نفسه استدرك، بعد صدور الكتاب، معلومة خاطئة، فأراد أن يزيلها؟ أو أنه أصدر حكماً قاطعاً على واقعة من الوقائع، ثم أدرك أن حكمه غير دقيق، فأراد إزالته عن الأعين، أم أن الأمر باختصار يعود إلى أن الظروف تغيرت بعد مرور الوقت على صدور الكتاب، وأصبح ذكر ما كان ممكناً قوله متعذراً في الظروف المستجدة.
سيكون الأمر باعثاً على حيرة أشدّ، فيما لو كان من محا العبارة بكل هذه السماكة من الحبر الأسود شخص آخر غير مؤلف الكتاب، أخذاً في الاعتبار أن المؤلف أصبح في الآخرة، وأن هناك من تولى بعده إصدار أو توزيع الكتاب، فأعطى لنفسه الحق في إزالة العبارة الباعثة على الفضول، لاعتبار قد يكون وجيهاً وقد لا يكون.
لكن حتى لو كان السبب وجيهاً، فبأي منطق يمنح شخص ما نفسه الحق في التصرف في مؤلفٍ وضعه شخص آخر، لم يعد حيّاً، فيزيل منه ما يزيل أو يضيف ما يضيف من أمور، ربما ما كان المؤلف سيوافق عليها، لو أنه لم يمت، خاصة أن الظرف الذي كتبت فيه هو غيره الظرف الذي تمّ التصرف في مؤلفه؟ ولنا أن نتخيل بالتالي ماذا لو أن الكثير من الكتب التراثية التي بين أيدينا، وكتبت قبل قرون، تعرضت لمثل هذا التصرف عبر الزمن، وأن الكثير مما بين دفتيها ليس من وضع مؤلفيها أنفسهم، وأن هذه الكتب قد خضعت لتغييرات وإضافات من أناس تالين لهم، كيّفوها بما يخدم أهواءهم، التي قد تكون سياسية ومغرضة.
من حسن حظنا أن هذا لم يعد ممكناً في ظروف الحاضر. القاضي الذي رفض طلب الحكومة الأمريكية بمنع نشر كتاب جورج بولتون «الغرفة التي شهدت الأحداث»، ورغم إقراره بوجاهة أسباب الحكومة في طلب منع نشر الكتاب، قال في حيثيات الحكم الرافض للطلب، بأنه «في عصر الإنترنت، فإن تداول بضع نسخ فقط يمكن أن يدمر السرية بشكل لا رجعة فيه. ويمكن لشخص واحد في حوزته نسخة من الكتاب أن ينشر محتوياته في كل مكان من العالم، وهو جالس في مقهاه المحلي».
جريدة الخليج