تعرّف لوسيان على كلوديت من خلال شرفتيهما المتقابلتين في باريس. إنهما يخرجان في الثامنة مساء، مثل آلاف الفرنسيين، لتأدية التحية للطواقم الطبية المجندة في «حرب كورونا». رآها تصفق ورأته يصفق وابتسم لها وابتسمت له وابتدأت الحكاية. الأمور هنا تجري ببساطة ولا خوف من واشٍ أو عذول. لا تغنّي الحبيبة: «ومن الشباك لأرميلك حالي»، بل تفتح الباب وتذهب للقائه. وكان مما زاد في تفاهمهما أن للوسيان كلباً أسود متوسط الحجم ولكلوديت كلباً أشقر صغيراً. والكلبان يخرجان مع صاحبيهما إلى الشرفة، كل مساء، يتعارفان بالنباح و«الهَوْهَوة». هكذا يكون قد اكتمل المشهد الذي رسمه الشاعر العربي: «وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري».
غير أن مشكلة «كورونا» ليست مع الكلاب، ولا مع النوق والبعران، بل مع الخفافيش. وهناك اليوم من ينفي تهمة انتشار الفيروس عنها ويلقيه على كاهل حيوان آخر اسمه البنغول. بحثت عنه في «غوغل» فأفادني موقع أميركي بأنه حيوان صغير خجول بحجم قطة، جسده مغطى بقشور تشبه حراشف السمك. وله اسم آخر هو آكل النمل، واسم ثالث هو أم قرفة. ما الذي جاء بأم قرفة إلى موقع باللغة العربية تابع للخارجية الأميركية وهدفه المعلن: «نشر قصص تثير النقاش والحوار حول مواضيع مهمة مثل الحرية الدينية وسيادة القانون والازدهار الاقتصادي والكرامة الإنسانية والسيادة»؟ تلك حكاية أخرى.
نقرأ أن البنغول هو من الحيوانات الثديية الأكثر طلباً في العالم، يطارده الصيادون في غابات آسيا وأفريقيا ولا يلتزمون بالحملات الدولية للحفاظ عليه. إنه يأكل النمل والحشرات والصينيون يأكلونه لأنهم يستطعمون لحمه. وهناك من ينزع قشوره التي تحتوي على مادة الكيراتين ويسحقها لكي تباع كعقار يفيد في تقوية الشعر والأظافر. وعلى غرار الشجرة والأرض والمعلم، هناك يوم عالمي للبنغول يحتفل به العالم في العشرين من فبراير (شباط). أليس من حق أم قرفة أن يكون لها عيد مثل غيرها من الأمهات؟
تجري حرب موازية حامية الوطيس في مختبرات الصين والولايات المتحدة. الهدف هو تحديد الحيوان المسؤول عن ظهور «كورونا». ولا يملك المرء إلا أن يتعجب وهو يرى قادة الدولتين العظميين يركبان وباء يفتك بالآلاف كل يوم، جاعلين منه مطية سياسية. هذا يقول إنها مؤامرة من بكين ضد واشنطن وبكين تهزّ كتفيها هازئة ونافية. والمطلوب تحقيق دولي للوصول إلى منبع الداء. لكن الصين ترفض مجيء محققين أجانب وتتسلح بمبدأ السيادة الوطنية على أراضيها. وفي خضمّ الكلام الكثير عن عصر «ما بعد كورونا» نسمع من يتنبأ بسقوط الرأسمالية المادية وولادة رأسمالية جديدة تهتم بالإنسان، لا العملة الخضراء.
لماذا يشتتون الجهود في البحث عن الحيوان ولا يركزون على إيجاد اللقاح؟ تقول ماريا فإن كركوف إن ذاك ضروري لهذا. والسيدة فإن كركوف هي خبيرة الأوبئة التي ترأس فريقاً انتدبته منظمة الصحة العالمية لدراسة فيروس (كوفيد – 19). هل يكون كوفيد الذي يصيب الجهاز التنفسي شقيقاً لكيوبيد الذي يصيب بسهمه القلوب؟
لم يعد لوسيان وكلوديت يطلان من شرفتين متقابلتين بل من واحدة. واليوم، بعد مرور شهرين على العزل المنزلي، ما زال الفرنسيون يخرجون كل مساء إلى الشرفات للتلويح بالأيدي والتصفيق والعزف والغناء. إنهم لا يشكرون الأطباء والممرضين فحسب، بل يعبرون عن السرور بالبقاء على قيد الحياة ليوم إضافي.
جريدة الشرق الأوسط