التلفزيون قلص حدود الخيال وأطاح بالشعر – بقلم فخري صالح

فخري صالح
الشعر العربي لم يواكب الانقلاب التكنولوجي.. فأين تتّجه قاطرته؟

بات أمرا واضحا تقهقر الشعر وتراجعه بشكل كبير سواء على مستوى القراءة أو على مستوى الحضور الثقافي، فالأمسيات الشعرية تقريبا بلا جماهير، والكتب الشعرية إن وجدت طريقها بمشقة للنشر فإنها لا تحظى بقراء ولا بإقبال جيد، كما تراجع نقد الشعر، كلها ظواهر بات على الشعراء التفكير فيها بعمق.

علينا أن نعترف أن الشعر العربي يمر في المرحلة الراهنة بأزمة عميقة، سواء في ما يتعلق بالعناصر الشكلية والتجربة الوجودية، أو ما يتعلق بطرق استقباله لدى المجموعات القرائية التي مازالت تؤمن بأن الشعر يمثل نوعا أدبيا بالغ الأهمية للتعبير عن تجارب الوجود التي ينخرط فيها العرب المعاصرون.

فإلى أين تتجه قاطرة الشعر العربي المعاصر في زمن صار فيه الأدب أقلَّ أهمية بالنسبة إلى القراء، كما صارت الرواية، دون الأشكال الأدبية جميعها، تتربَّع على سدة اهتمام القراء وتسبق الشعر بخطوات واسعة من حيث أرقام التوزيع وتركيز ضوء النقد والدراسة على هذا الشكل الذي يبدو أقرب إلى نثر الحياة اليومية وتفاصيلها؟ هل مازال الشعر ديوان العرب، أم أننا نعيش حنينا مريضا إلى ماض مضى ولن يعود؟

شعراء نهاية القرن

أسئلة حائرة يفرضها واقع تراجع الكتابة الشعرية على صعيد الاهتمام والنشر والتوزيع، وازورار الناشرين، كبيرهم وصغيرهم، عن نشر الشعر حتى لكبار الشعراء العرب ممن أصبحوا جزءا من المدونة الشعرية العربية المعاصرة، تُكتب عنهم الكتب والرسائل الجامعية وتُقرَّر قصائدهم في المناهج الدراسية.

لا شك أن طبيعة العصر تفرض نفسها، وغلبة الفنون السردية والحكائية وهيمنة النثر، بأشكاله كافة، على الفنون وأشكال التواصل الجماهيري، رواية وسينما ودراما تلفزيونية وصحافة إبداعية تعتمد القالب القصصي، هي العواملُ الأساسية التي تدحر الشعر وتُحِلِّه مكانة أدنى في سلّم الأنواع الأدبية.

هذا ليس شأن العرب وحدهم، بل هو شأن الشعوب والثقافات جميعا بدءا من النصف الثاني من القرن الماضي الذي شهد ولادة التلفزيون وأشكال التواصل الجماهيري التي تقلّص حدود الخيال وتجعل الصور والاستعارات والمجازات اللغوية فقيرة بالقياس إلى قوة الصورة، الثابتة أو المتحركة، وفوريَّتها وقدرتها على صدم القارئ أو المشاهد الذي صار في إمكانه أن يتابع ما يحدث في كل ركن من أركان هذا العالم في اللحظة والتوِّ.

لقد أصبحت اللغة الشعرية عاجزة وأشبه باللعثمة أمام هذا الفيض الهائل من الصور وأشكال التعبير المدهشة.

خبا ضوء الشعر، رغم أنه الشكل الأكثر كثافة في التعبير عن قضايا الإنسان الكبرى وعن تجربته الوجودية العميقة

اللافت أن الشعر العربي خلال العقود القليلة الماضية لم يستطع أن يلتقط هذه اللحظة التاريخية الفارقة في انقلاب تراتبية الأنواع، وأصرّ على أن يبقى نوعا مجازيا بامتياز، ولم يستفد كثيرا من الأنواع والأشكال الفنية المجاورة، إلا على نحو ضيق وفقير بالقياس إلى ما فعله الشعر في ثقافات أخرى.

لكن الشيء المثير للانتباه الذي فعله هذا الشعر، بتأثير بعض الترجمات لعدد من شعراء القرن الماضي البارزين في العالم، أنه حاول خفضَ نبرته وتقليص استعاراته. لم يستفد هذا الشعر كثيرا من عالم المسرح والسينما، ولكنه استفاد من عالم السرد وذهب بعيدا في نثر شكله ولغته، كما حدث في قصيدة النثر وتحولاتها خلال ما يزيد على نصف قرن من الزمان.

لكن ما هو جدير بالاهتمام خلال العقدين الأخيرين هو عودة كثير من الشعراء، ومن ضمنهم شعراء شباب طالعون ومتحمسون، إلى الشكل التقليدي للقصيدة العربية، لا إلى الشعر العمودي فقط بل إلى جزالة اللغة وقوة الإيقاع وطاقة الصورة المجازية وعلوِّ النبرة. بعضهم يعود إلى العمود الشعري، والبعض الآخر يمزج العمود بقصيدة التفعيلة، أو أنه يزاوج بين العمود والتفعيلة والنثر لينتج نصا مركبا يعيدنا إلى تجريبية أدونيس الذي اشتغل مبكرا على اختبار طاقة الأشكال وقدرتها على مدِّ الشعر العربي المعاصر بأسباب جديدة للحياة والإدهاش.

هذه الانعطافة التي يتّخذها الشعر العربي المعاصر باتجاه القديم تشير إلى أشياء عديدة من بينها: وهنُ الشكلَيْن التفعيليِّ والنثريِّ، وقوةُ الماضي التي تتجلى في الحياة السياسية واليومية كما تتجلى في الشعر، وتأتي على رأس ذلك كله قوةُ الأنساق الثقافية التقليدية التي تعكس تقليديةَ السلطة والمناهج والتعليم، كما تعكس مقاومة شديدة للحداثة والتحديث من قبل الدولة العربية التي تكره التغيير وترهن وجودها ببقاء العتيق والتقليدي والبنى المتكلّسة التي تديم حضورها.

العلاقة المعقدة

القراء في واد ومنتجو الشعر في واد آخر
القراء في واد ومنتجو الشعر في واد آخر

الوجه المهم الآخر في معضلة الشعر العربي في الوقت الراهن هو علاقته المعقدة بالقراء. وباستثناء عدد قليل من الشعراء، يعدّون على أصابع اليد الواحدة، ليست للشعر سوق رائجة. واللافت للانتباه هو أنه على الرغم من التحوّلات العميقة التي مرّ بها الشعر العربي، إلا أن الرؤية الجمالية التي تحكم ذائقة العرب للشعر مازالت كما هي لم تتبدل ولم يمسسها سحر التغير الذي طرأ في حقل الكتابة الشعرية نفسها.

لقد ظل القراء في واد ومنتجو الشعر في واد آخر. أقلُّ ما يمكن أن يقال هو أن الشعراء ونقاد الشعر خلال النصف الثاني من القرن الماضي وفي العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، بقوا سائرين في درب نخبوي، غير منتبهين إلى ابتعاد القراء يوما بعد يوم عن عالم الشعر والشعراء.

تلك رؤية متشائمة، ولكن هناك الكثير من الأدلة التي تسندها: فعلى صعيد استقبال الشعر، فإن الأمسيات الشعرية لم تعد تستقطب جماهير المستمعين، وبات الحضور هم من أصدقاء الشاعر أو أهله أو من المهتمّين الذين قد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة؛ وعلى صعيد نقد الشعر، إذ تناقصَ عدد النقاد والمنظرين العرب الذين يهتمون بالشعر في كتاباتهم، وتحوَّل عدد كبير منهم إلى نقد الرواية التي أصبحت النوع الأدبي الأكثر مقروئية والأكثر رواجا والأكثر استقطابا للجوائز الكبيرة التي تثير الضجيج وتجذب فَراشَ الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، كما تثير الصخبَ على صفحات المدونات.

لقد خبا ضوء الشعر، رغم أنه الشكل الأكثر كثافة في التعبير عن قضايا الإنسان الكبرى وعن تجربته الوجودية العميقة. كما أن هذا الشكل الذي يلتصق بالتجارب الأولى لتعبير الإنسان عن نفسه، والتأتأة الأولى التي انبثقت منها اللغات البشرية، بدأ يتوارى في العالم كله لصالح أشكال تعبيرية منها الرواية والسينما والفيديو كليب، وكل ما يعرض على شاشات التلفزيون، وما يبتكره البشر، من جهات الأرض جميعا، ويسبح على شاشات الكمبيوتر ويظهر كلما أبحرنا في مياه الشبكة العنكبوتية المزدحمة بالأشكال والمعارف جميعها، الغثِّ والسمينِ منها.

ما يهمني أن أشير إليه، هو أنه رغم هذه التحولات، على صعيد الكتابة الشعرية، والتحولات النظرية الخاصة بتعريف مفهوم الشعر، وغزو أشكال التعبير الأخرى من سينما ومسرح وفيديو للكتابة الشعرية في الوقت الراهن، إلا أن القارئ العربي مازال يقيم في زمان سابق مؤمنا بأن الشعر إيقاع صاخب مقعقع، وأنه مجرد صور تتوالى. يعود ذلك إلى غلبة الرؤية الكلاسيكية للشعر في ما يقرأه الطلبة في المدارس والجامعات، حتى لو كانت بعض نصوص بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش قد تسلّلت إلى مقررات الدراسة.

إن المدرس مازال يقول للطالب إن الشعر الحقيقي هو شعر زهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد وأبي تمام والمتنبي، فكيف يقتنع الطالب المسكين بأن محمد الماغوط شاعرٌ يعبّر عن زمانه العربي الراهن ويخترق حجب الأزمنة كما فعل المتنبي وامرؤ القيس؟

المشكلة كامنة في تربية الذائقة، في توجيهها وجهة محددة وإرغامها على رفض الجديد وعدم الدخول في الزمان الجديد، لكن هذا التوجيه المعاكس لرياح العصر، يجعل الشباب في حيرة من أمرهم عندما يشاهدون كل هذه التحولات في العلم والمعرفة والتكنولوجيا وطرائق العيش، في الوقت الذي يطلب منهم أن يتجمدوا عند ما أنجزه الأسلاف من شعر. إن الحل الأسهل بالنسبة إليهم هو أن يديروا ظهورهم للشعر كله، ما داموا لم يعطوا مفاتيح قراءته.

صحيفة العرب