ومن محاسن المكوث في البيوت، التزاماً بأوامر الحكومة، أن تتفرج على أفلام كثيرة فاتتك في وقتها. ومنها «عائلة بيلييه». فيلم فرنسي عمره ست سنوات، مصنوع بميزانية صغيرة، لا يضاهي فراقيع هوليوود إلا ببراعة أداء ممثليه. وباستثناء البنت المراهقة بطلة الفيلم، فإن بقية الممثلين لا يملكون كثيراً من وسامة نجوم السينما. بشر بسطاء عاديون صامتون ومنكفئون على ذواتهم، مثل الذين يصادفهم المرء في عيادة طبيب الأسنان. لكن الفيلم يستحوذ عليك، ويملأ عينيك بالدموع في مشاهده الأخيرة. هذا إذا كنت من رقيقي القلب المرهفين الطيبين، أو من السُذَّج الذين يبكون ويبللون المناديل أمام الشاشة.
عائلة بيلييه أسرة فلاحين، تسكن مزرعة إلى الغرب من باريس. الأب رودولف أطرش وأخرس، وزوجته جيجي طرشاء وخرساء، وابنهما كونتان كذلك، والبنت الكبرى بولا هي الوحيدة بينهم التي تسمع وتتكلم؛ لكن فقدان حاسة من الحواس لا يبدو مقلقاً لهم. إنهم يتفاهمون بلغة الإشارة. يتشاجرون ويتراضون، ويربون بقرتين، ويصنعون أقراص الجبنة ويبيعونها في أسواق الريف. وإذا استعصت عليهم قضية فإن بولا موجودة للحديث بالنيابة عنهم. بل إن رب الأسرة يقرر أن يرشح نفسه لمنصب عمدة القرية. يخلع رداء الزريبة ويرتدي سترة، ويدعو إلى اجتماع انتخابي يخطب فيه بين الأهالي. يطوي أصابعه ويفردها ويتلاعب بملامح وجهه، وبجانبه «مترجم» ينقل للمستمعين ما يقول.
كان يمكن لليالي والنهارات أن تتعاقب على عائلة بيلييه مثل تعاقب الفصول. الخريف يشبه الخريف، والبقرة تُدر حليبها، وأقراص الجبنة تجف على رفوفها؛ لولا أن البنت بولا تحب الغناء وتحفظ أغنيات ميشيل ساردو. وهناك في مدرسة القرية معلم للموسيقى ينتبه لجمال صوتها، ويتطوع لإعطائها دروساً خصوصية. يبعث بتسجيل لها إلى المسابقة السنوية التي تجريها إذاعة فرنسا للأصوات الجديدة.
تثور الأم حين تكتشف أن ابنتها تتلقى دروساً في الغناء. من يرعى البقرتين ويحلبهما إذا ذهبت لباريس؟ وكيف ستجري الأمور من دون بولا التي هي أذن الأسرة ولسانها؟ تتراجع البنت وتقرر نسيان المسابقة. يتسلل والدها في المساء ويجلس عند سريرها. يطلب منها أن تغني له. ليس في مقدوره سماع الصوت؛ لكنه يضع أنامله على حنجرتها ويستشف الذبذبات. يشعر أن ابنته تؤدي شيئاً جميلاً فيوافق على المسابقة.
في سيارة مخلعة تنطلق عائلة بيلييه بجميع أفرادها إلى باريس. يغادرون قريتهم في الفجر لكي يصلوا إلى العاصمة مع موعد الاختبار. يتوهون في الساحات الكبرى والجسور الكثيرة وأنوار برج «إيفل»؛ لكنهم يصلون في الوقت المحدد. تؤدي بولا أمام اللجنة أغنية ساردو التي تقول كلماتها: «والدي العزيزين سأرحل. أحبكما لكنني سأرحل. لن أهرب هذا المساء؛ لكنني سأطير». تغني البنت بحنجرتها وبأصابعها بلغة الإشارة، لكي يفهم والداها وشقيقها ما تقول. يحلق صوتها عالياً وتطير فوق الغيوم والقرى وتبن الحظائر وأبقار المراعي. تدمع الأعين وتنبهر اللجنة.
من خلال هذا الفيلم اشتهرت مغنية فرنسية مبتدئة تدعى لوان أيميرا. رآها المخرج إريك ليرتيغو تغني في النسخة الفرنسية من برنامج «ذا فويس»، وقرر أن يمنحها دور بولا. شاهد الفيلم أكثر من سبعة ملايين متفرج، ونالت لوان جائزة «سيزار» كأفضل ممثلة واعدة.
استقبل النقاد الفرنسيون الفيلم بشكل طيب؛ لكن صحافية بريطانية صماء اعترضت عليه. كتبت ريبيكا أتكينسون في «الغارديان» إن هذا الفيلم هو شتيمة لمجتمعات الصم والبكم، وإن الممثلين ليسوا من فاقدي السمع، وبالتالي فإن لغة الإشارة فيه كانت «سمك لبن تمر هندي».
جريدة الشرق الأوسط