إذا كان لنا أن نقيس تأخر دولة واستبدادها بمقدار اضطهادها لعلمائها ومثقفيها، فيمكننا أن نقيس مدى تمدنها وحرصها على التقدم، من مقدار احترامها ورعايتها للعلماء والمفكرين والمثقفين. هكذا كان الأمر في عهد الدولة العباسية وأيام ازدهار الحضارة الإسلامية. وينبغي ونحن نقول هذا، أن نسرد هنا بعض الأمثلة المعاصرة من ذلك، وكان منها حرص المملكة العراقية على مكانة مفكريها ومثقفيها في صدر قيامها بإرساء حكمها الجديد في الثلاثينات.
روى لي المرحوم داود السعدي، أحد النواب، كيف أنهم في الثلاثينات، واصل نواب المعارضة ضجيجهم واعتراضاتهم على السلطة. راحوا يتهجمون عليها وينددون بسياستها، ومن ذلك اعتراضهم على أحد تشريعاتها الجديدة. انفضت الجلسة من دون أن تستطيع الحكومة أن تمرر القانون الجديد واضطرت إلى تأجيل المناقشة. أسرع أحد نواب الحكومة في المجلس إلى رئيس الوزراء، وكان عندئذ ياسين الهاشمي، فقال له: لماذا تعطي هذه الحفنة من النواب كل هذا الاهتمام وتسمح لهم بكل هذا المجال؟ لا يتجاوز عددهم عدد أصابع يديك. الأكثرية كلها معك. اطرح اللائحة للتصويت فنصوت على قبولها من دون كل هذا القيل والقال وينتهي الأمر. فأجابه ياسين الهاشمي: نعم أنا أعرف أن الأكثرية الساحقة معي، ولكن هذه الحفنة من النواب التي تشير إليها تمثل زبدة الوطن. إنها النخبة المثقفة والمتعلمة. يجب أن نستمع إلى آرائها ونعطيها ما يكفي من المجال للتعبير عن أفكارها.
حدث مثل ذلك بعد أشهر قليلة عندما سقطت حكومة ياسين الهاشمي وحلت محلها حكومة حكمت سليمان سنة 1936. سعت الحكومة الجديدة إلى الاقتصاد في النفقات فشكلت لجنة تنسيق الجهاز الحكومي. لاحظت هذه اللجنة أن السيد حسين الرحال، الموظف في مديرية الدعاية العامة، لا يحضر إلى مكتبه إلا لماماً. فقررت فصله عن الوظيفة رغم كل ثقافته الواسعة وإتقانه سبع لغات أجنبية. اعتكف حسين الرحال في بيته مستاء مما حصل. ولكنه ما فتئ حتى سمع بعد أيام قليلة طرقاً على الباب. فتح الباب، وإذا به يجد رئيس الحكومة، حكمت سليمان أمامه. التمس منه هذا أن يسمح له بالدخول. فدخل. استغرب من الأمر، رئيس الوزراء يأتي لزيارة موظف صغير، لا بل ويعتذر لهذا الموظف الصغير عن طرده من الوظيفة.
وبعد أن أتم الاعتذار وشرح له كيف أنه لم يكن عالماً بقرار اللجنة، عرض عليه تسلم مديرية جديدة أقامها خصيصاً له، مديرية المطبوعات الأجنبية. لم يكن للسيد الرحال أن يرفض طلب رئيس الوزراء فقبل الوظيفة وباشر بها. ولكن وكما نتوقع، عادت حليمة إلى عادتها القديمة. وكانت عادة حسين الرحال التغيب عن الوظيفة. لم يجرؤ رئيسه، إبراهيم حلمي العمر على طرده مرة ثانية فشكاه إلى الوزير، مصطفى العمري. قال له: ما الذي يمكنني أن أعمل بهذا الموظف؟ إنه لا يحضر لعمله أكثر من ساعة أو ساعتين في اليوم. فقال له الوزير: هذا كرم منه. كنت أتصور أنه لا يحضر أكثر من ساعة واحدة في الشهر! اتركه وشأنه. فهو واحد من المثقفين والدارسين الذين يؤدون أعمالهم وواجباتهم لوطنهم بطريقتهم الخاصة! ولا نملك منهم غير عدد قليل لا نريد أن نفرط فيهم.
جريدة الشرق الاوسط