حروب القرن الحادي والعشرين ستكون حروب مياه. منذ عقود بعيدة ونحن نسمع هذا الكلام. واليوم تعيش معظم دولنا العربية نزاعات مع جيرانها على الأنهار والآبار والبحيرات وموارد الماء. الماء الذي منه كل شيء حي. فهناك قلق رسمي وشعبي يمتد «من النيل إلى الفرات». أي في المنطقة التي يحلم عدوّ بالسيطرة عليها. والعدوّ الواحد صار أعداء.
خلال ما يسمى بشهر العسل القصير بين بغداد ودمشق، أواخر السبعينات، زار سوريا وفد صحافي من جريدة «الثورة» البغدادية بدعوة من جريدة «البعث» الدمشقية. وكانت قضية سد «الفرات»، آنذاك، من القضايا التي سممت العلاقات، المسمومة أصلاً، بين البلدين والبعثين. فقد اشتكى العراقيون من أن السد الذي أقامته الجارة سوريا يحجز عنهم حصتهم من النهر. تجوّل الوفد في سوريا وزار مسؤولين بينهم الدكتور صابر فلحوط، رئيس اتحاد الصحافيين. وفي جلسة من الود والأريحية سخر الجانبان من الحملات الإعلامية التي كانوا يديرونها، كل من عاصمته، ضد الأشقاء. وروى فلحوط نكتة عن مبالغات بغداد في تضخيم أضرار السد الذي شيدته دمشق. قال إن مزارعي القرى العراقية الواقعة على الفرات «صاروا يحتسون العَرَق خالصاً، من دون ماء ولا ثلج، لأن السوريين جففوا النهر».
اليوم يعاني سوريون من شح المياه لأن تركيا تضغط عليهم. وجاء في تقرير دولي أنها قطعت إمدادات المياه عن المناطق الأكثر ضعفاً في سوريا. وهي المناطق التي اجتمعت على نازحيها ثلاثية الحرب والتهجير و«كورونا». والحال ليس بأفضل في فلسطين. فهناك خمس دول تتشارك مصادر المياه في حوض نهر الأردن. وقد جففت إسرائيل بحيرة «الحولة» وحوّلت مجرى النهر لصالحها. صار الفلسطينيون يعتمدون بشكل أساسي على المياه الجوفية، أي الآبار. وحتى هذه لا يتصرفون فيها بل تستولي إسرائيل على ثلاثة أرباعها ثم تعيد بيعها لسلطة المياه الفلسطينية.
حتى العراق، بلاد الرافدين، صار مهدداً بالعطش. لا تنقطع الكهرباء في بغداد فحسب، بل المياه في حنفيات البيوت. وقبل سنتين أعلنت تركيا عن سد «أليسو». وقال خبراء إنه سيحجز نصف كميات المياه عن دجلة. مع هذا فإن روافد هذا النهر تجعله أفضل من الفرات. وتركيا ليست الطامع الوحيد. فقد اعترف المسؤول العراقي عن السدود والخزانات أن إيران غيرت مجرى نهر الكارون بالكامل وأقامت ثلاثة سدود كبيرة على نهر الكرخة. كان العراق يشترك معها بأكثر من أربعين رافداً مائياً ولم يبق منها اليوم سوى أربعة. والجفاف يجبر الفلاحين على هجرة أراضيهم. ولا مشروب ينفع في المواساة. تتيبّس السواقي في البلد الذي عرفت حضاراته الزراعة وقنوات الري منذ كذا ألف عام. انحسرت مياه النهر بحيث انكشف قصر أثري في شمال العراق يعود للعصر البرونزي. ولم يجد إبراهيم الجعفري، وزير الخارجية السابق، ما يقوله سوى إن جفاف دجلة يؤذن بظهور المهدي المنتظر.
وها هي القاهرة، في الصوب الآخر من أمة العرب، تخوض معركة المياه. والسبب سد «النهضة» الذي أقامته إثيوبيا على نهر النيل. ومصر هي هبة النيل. هكذا كانت منذ أقدم العصور. وهي لن تقبل بشفط حصتها منه وضرب اقتصادها الزراعي. تخيلوا يوماً تضمحل فيه أنهارنا التاريخية ثم تأتي أجيال تسمع عنها في القصائد والأغاني القديمة. أما من شاعر يصيح: «إذا ظمئت بغداد والشام ومصر فلا نزل القَطرُ»!
جريدة الشرق الاوسط