وأنا أترقب موعد وصولي لبغداد، كنت مسكوناً بهاجس: كيف سأراها بعد هذه الغيبة الطويلة عنها. فكيف لنا أن نخال وضع بلد عرف كل هذه الحروب والمحن واحدة بعد الأخرى؟ وهو السؤال نفسه الذي سمعته من محيط الأصدقاء والمعارف بعد عودتي: كيف رأيت بغداد؟
ما أبصرته عيناي عند لحظة وصولي وخروجي من مبنى المطار أشعرني بحجم ما عاناه هذا البلد الغالي علينا مما مرّ به من محن، كأن البلد الذي كان قبل نحو قرن أقرب بكثير إلى المستقبل، نأى عنه في بعض الأوجه، فالذين لا يريدون عراقاً قوياً مؤثراً في منظومة الأمن العربي والإقليمي، وما أكثرهم، تكالبوا عليه مستعينين أو مستفيدين من ركائز وأوجه خلل داخلية.
ولكني ما إن اقتربت، وفي يوم الوصول نفسه، من العراقيين ولمست ما أعرفه فيهم من دفء وعزيمة، حتى دبّ الأمل في نفسي وبقوة من أن بلداً عظيماً مثل هذا عصيٌّ على الانكسار وقادر على النهوض مجدداً، وكنت سعيداً بلقاء الجمهور في إحدى فعاليات البرنامج الثقافي لمعرض الكتاب الذي جئت لحضوره، تحدثت فيه عن الثقافة في واقعنا العربي المأزوم، وسرّني ليس فقط حضور وجوه أدبية وثقافية عراقية مخضرمة تجمعني مع الكثير منهم علاقات صداقة ومعرفة ومودة، وإنما أيضاً وجوه شابة في مقتبل العمر، ربما يكون بعضهم لم يعش الكثير من المحن التي مرّ بها وطنهم، لحداثة أعمارهم.
بعض هؤلاء الشباب اقتربوا مني بعد انتهاء اللقاء، ليطرحوا أسئلة تنم عن شغف بالمعرفة والثقافة، واستوقفني سؤال أحد هؤلاء الشباب لي: «كيف تفسر الحضور القوي للثقافة في العراق رغم ما عاناه». أجبته بشكل عفوي: أُرجع ذلك إلى ما يتمتع به المجتمع العراقي من ديناميكية ثقافية وما للعراق كنفسه، كبلد، من عمق حضاري. بلد تضرب جذوره في حضارة قديمة أعطت العالم ما أعطته من علم وفن وأدب، سيظل ولّاداً دائماً بالإبداع والمبدعين، وصانعاً للأمل، رغم الصعاب.
أيام بغداد – بقلم حسن مدن
جريدة الخليج