الحديث مع الكاتب اللبناني أمين معلوف رحلة مشبعة بالمعرفة، فهو يتأرجح بين الفلسفة واستشراف المستقبل، ومعه ندرك مدى قدرة «الهويات» على «قتل المجتمعات»، وكيف يمكن تشريح الواقع العربي والغربي على حد سواء، وهو قدم «غرق الحضارات» و«الهويات القاتلة» و«إخوتنا غير المتوقعين» الذي بدا بمثابة جوهرة أدبية، شكل زواياها قبل جائحة «كوفيد 19»، ورأت النور العام الماضي، حيث شهد تكريمه بـ«الوسام الفرنسي الذي رفعه إلى رتبة ضابط كبير». في حديثه مع «البيان» يرى معلوف أن «الهويات» تصبح «قاتلة» عند سيادة «عدم قبول الآخر»، ويرى أن «الدواء هو الإيمان بالبشرية وبقيم معينة»، ويؤكد أن «الأدب يجب أن يكون في خدمة هذه القيم»، وأن «لا خلاص لمنطقتنا إلا بالتعليم والتنوير والكتابة»، قائلاً إنه شعر بذلك أثناء زيارته لدبي، والتي يراها درة فكر وأدب وتقدم في المنطقة.
في سبعينيات القرن الماضي، اضطر معلوف لمغادرة حدود موطنه الأصلي، حيث كانت «ألسنة نيران الحرب الأهلية تلسع كل من فيه»، ليسكن فرنسا، حيث تشرب من حضارة الغرب ونشر سحر الشرق، عبر مؤلفات لم ينفك فيها عن تشريح الأوضاع العربية والغربية، ووقف فيها بين ضفتي الواقعي واللاواقعي، وها هو من مهجره يطل علينا «افتراضياً» لنلتقط منه بعضاً من لآلئ معارفه، ونطوف بين مؤلفاته وأفكاره.
تطوير العلاقات
بداية الحديث مع معلوف لم تنطلق من فرنسا، وإنما من دبي، حيث يرى أن أهمية مهرجان طيران الإمارات للآداب «تكمن في قدرته على تطوير العلاقات وإقامتها بين مناخات أدبية مختلفة»، معتبراً أن ما يقوم به المهرجان يتناسب مع روح دبي وروحيته التي «تتمازج فيها الشؤون الأدبية مع العلاقات بين العواصم، وبالتالي توسيع الأفق». ويقول: «ما يقوم به المهرجان من جهد خلاق يتناسب مع بحثنا الدائم عن الإيجابيات في ظل الأوضاع المأساوية التي نعيشها، ما يمكننا من إيجاد مخارج نحو عالم أفضل».
في كتبه، يسعى معلوف دائماً إلى التذكير بأهمية الأدب ودوره في مداواة جروح المجتمعات العربية، ويؤكد لـ«البيان»، أنه «لا خلاص لمنطقتنا إلا عبر التعليم والتنوير والكتابة والنشر والترجمة». ويقول: «أعتقد أن هذه هي الأسس الأفضل لبناء المستقبل، وهذا ما لمسته خلال زياراتي القليلة لدبي وأبوظبي، والتي يمكن وصفها ببعض من أجمل اللحظات التي عشتها ككاتب في السنوات الأخيرة، حيث شعرت بوجود اهتمام حقيقي بالأدب والفكر، وآمل بأن يفعل الجميع ذلك، وأن يكون لدى دول المنطقة أولويات كهذه، من شأنها تعزيز الدور الحضاري للعرب».
تنوع ثقافي
يدرك معلوف تماماً «فضائل التنوع الثقافي»، عبر سعيه الدائم لإبرازه بين حيثيات كتاباته، كما يدرك أيضاً أن «الهويات» تصبح «قاتلة» عند «عدم القبول بهوية الآخر»، وهو ما ترجمه في كتابه «هويات قاتلة»، ويشير في حديثه عن «الهويات»، إلى إيجابيات وجود «تعدد في الانتماءات في العالم»، ويقول: «ما يجعل من الهويات مشكلة في عالمنا اليوم، هو عدم القبول بهوية الآخر، أو أن نفرض على الإنسان الاختيار بين انتماءاته المختلفة، انتماءً واحداً فقط، ما يُحوله إلى حد ما إلى علاقة عداء مع حاملي الانتماءات الأخرى».
ويضيف: «تعدد الانتماءات، يثري أي مجتمع، بل يثري العالم، ولكن بشرط أن نعرف كيفية إدارة هذا التعدد والتعامل معه، وكيفية جعل الناس تعتبر أن المجتمعات يمكنها التعايش مع التعدد وأن تطوره بشكل يغني كل أفراد المجتمع ومقوماته». تأثير الأدب في قلب المجتمع، لا يجعله بمنأى عن ممارسة وظيفته الحقيقية الهادفة إلى تجسير الهوة بين «الهويات»، وفي هذا السياق، يقول معلوف: «أرى أن للأدب دوراً أساسياً يلعبه بين مختلف مكونات مجتمعاتنا، ولكن ذلك لا يعني أن الأدب دائماً يلعب دوراً إيجابياً، فهناك أصوات وأدباء هاجسهم الدائم يتمثل في بناء جسور بين المجتمعات الإنسانية، وبين فئات المجتمع نفسه، وهناك أدباء يقفون على الطرف المعاكس، عبر رهانهم على الصراعات..ولكن يبقى علينا معرفة كيفية توظيفه بالطريقة الصحيحة».
تسليط الضوء
لم تكن الهويات والتعدد الهاجس الوحيد الذي سرى في عروق معلوف، وهو الذي سعى في كتابه «غرق الحضارات» الفائز عنه بجائزة تيرزاني الإيطالية، إلى تفكيك الأوضاع العالمية والعربية، حيث بدا فيه وكأنه يسلط الضوء على منطقة مظلمة، وهنا يعتبر معلوف أن من «واجب الكاتب هو وصف ما يراه بصدق، دون محاولة قول العكس»، ويضيف: «لا يمكن أن نقول للناس بأن الأوضاع جيدة، وإننا نسير في اتجاهات جيدة، تختلف عن ما نعايشه في الواقع، وفي الوقت نفسه، لا يحق للأديب نفي الأمل…».
العدو الحقيقي
في روايته الأخيرة «إخوتنا غير المتوقعين» يقف معلوف على ضفتي الواقعي واللاواقعي، ليحذر من «مغبة التغيرات الكونية التي تبدو لوهلة مبهجة»، فيما يخبئ بين سطورها «حكاية الذهاب إلى الجحيم»، لا سيما وأن وقائعها جاءت موائمة لطبيعة أجواء جائحة «كوفيد 19» التي لا تزال تخيم علينا. ويقول في الصدد: «في هذه الرواية حاولت أن أحلم بعالم مختلف، يعود إلى صوابه..منذ سنوات وأنا أشعر بأن عالمنا متقدم ويتقدم بسرعة متزايدة على صعيد العلم والتكنولوجيا والاقتصاد، ولكنه لا يتقدم في مجال العقليات والتعامل مع الفروقات بين البشر». ويتابع: «في هذه الرواية تخيلت أن عالمنا يصل إلى مرحلة ما قبل الانهيار، وأن هناك صوتاً يأتيه من التاريخ ويحاول تصحيح المسار، ويقول بأن العلم يفترض أن يأتي بمواضع مختلفة في مصير البشرية، وأن عدو البشر هو المرض والدمار، وليس المجموعات البشرية الأخرى».
جريدة البيان