أسماؤنا التي تخبئ الحروب السياسية والدينية والهوياتية – بقلم أمين الزاوي

امين الزاوي

إنها مرآة تاريخنا في محطاته الجريحة والبهيجة أيضاً

الأسماء ظلال للدين والطائفة والهوية، وأسماؤنا ليست بريئة أو عفوية أو من دون دلالة، إنها مشحونة كبطارية، كل اسم يجيء التاريخَ نظراً لعامل سياسي أو ظاهرة فنية أو ضغط ديني معين.

في أسمائنا تختبئ معارك الآباء والأجداد، معارك شرسة، هي أسماؤنا رسائل مشفرة فيها انحياز لطرف وفيها معارضة لآخر، أسماؤنا هي لون لأسلحتنا وراية لحلفائنا في الحروب ولأعدائنا وخصومنا.

نطلق على أبنائنا، ذكوراً كانوا أو إناثاً، أسماء بعينها من دون غيرها، ونحن بهذا الفعل، سواء بشكل واع أو غير واع، نؤسس لموقف أو ندافع عن حالة سياسية أو ذاكراتية أو أيديولوجية أو طائفية أو هي محاولة للتعسكر داخل هوية معينة خوفاً على ضياعها.

أسماء أبنائنا كما هي أسماؤنا بنادق وسياج للذاكرة وحرب طويلة، لأنها الحروب التي تعيش بعمر المولود.

في المجتمعات التي تتميز بثقافة العنصرية والطائفية والصراعات الهوياتية يُعرف الفرد من اسمه، فاسمه يحيل مباشرة على فئة اجتماعية معينة، فهو منذ ميلاده منخرط في جبهة صراع، على الرغم منه، ضد جبهة أخرى.

إن هناك قائمة من الأسماء ممنوع إطلاقها على أطفال منطقة معينة لأنها تحيل على رمزية منطقة أخرى من الخصوم، وهي مشحونة بصراع أو خلاف عقائدي أو هوياتي أو طائفي مع هذه المنطقة السياسية أو الطائفية أو الهوياتية، بهذا المعنى فاختيار أسماء الأبناء ليس من صلاحية الأب أو الأم كما قد يبدو في الظاهر، بل إن خيار الأبوين محدود. إن اختيار الأسماء، في نهاية المطاف، هو اختيار “الجماعة” الأيديولوجية والدينية والهوياتية، التي تملي هذا الاسم أو ذاك وتمنع هذا أو ذاك.

إن الأسماء لا تنزل من السماء، إنها وليدة الصراعات، منحوتة منها وهي حطبها أيضاً وذاكرتها، والأسماء تأتي في شكل موجات، بحسب درجة طغيان تيار سياسي أو الثقافي-الفني أو هوياتي معين، ففي الجزائر مثلاً ومع سنوات الاستقلال الأولى وحتى نهاية السبعينيات، كانت قائمة الأسماء تدور حول: “جميلة” (إحالة إلى جميلة بوحيرد واحدة من أبرز بطلات الثورة التحريرية) وكذا “كتيبة” وهو اسم نادر في العالم العربي والمغاربي ويحيل إلى “كتيبة حرب”، واسم “حورية” وهو من كلمة “حرية”،  ومن أسماء الذكور “عبد القادر” للإحالة على الأمير عبد القادر و”لطفي” للإحالة على الشهيد لطفي، وعميروش للشهيد عميروش ورمضان إحالة على الشهيد ومنظر الثورة الجزائرية عبان رمضان وغيرها من الأسماء التي ارتبطت ببهجة الاستقلال وعظمة الثورة الجزائرية.  

وانطلاقاً من نهاية السبعينيات وحتى نهاية الحرب الأهلية الجزائرية أو ما سمي بالعشرية السوداء (1990-2000)، ظهرت فجأة موجة أخرى من الأسماء لجيل جديد بدأ يبتعد عن الثورة وعن أفراح الاستقلال، وتتميز هذه الأسماء بتناغمها مع الإسلام السياسي، وانحيازها لأيديولوجيا بعينها، وهي أسماء تحيل على قادة إسلاميين في التاريخ أو على قادة من الحركات الأصولية العربية والإسلامية المعاصرة، وجلها لم يكن متداولاً شعبياً في الأسرة الجزائرية، ومن هذه القائمة: إسلام، خالد، عتبة، هدبة، أسامة، حذيفة، الغزالي، مسلم، المغيرة، انتصار، أم المؤمنين، لبيبة، مكارم، نعمات، أماني، هند، جنات، سندس، منال، مروة، الصفا، أيمن، سيف، مطيع، خليل، مصعب، عبد الودود، بدر، الفاروق، زكريا… ومع قراءة أسماء أطفال هذا الجيل سنكتشف وبسرعة المد الأيديولوجي للإسلام السياسي وبخاصة الإخوان المسلمين الذين أغرقت منشوراتهم وكتب زعمائهم سوق الكتاب الجزائري إضافة إلى الأشرطة المسموعة التي كانت تباع على الأرصفة وكذا ظهور قنوات تلفزيونية مشرقية متخصصة في الدعوة بدأ الجزائري يلتقطها مع وصول “البارابول” (الدش).

ومع انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 1988 التي فتحت البلاد سياسياً وأدخلت الجزائر في التعددية الحزبية، ظهرت موجة من الأسماء تحيل على معركة الدفاع عن الهوية الأمازيغية، فقبل هذا التاريخ كان الجزائريون وبقرار رسمي من وزارة الداخلية، أيام حكم الحزب الواحد، ملزمون بقائمة مغلقة للأسماء التي يسمح لهم بإطلاقها على أبنائهم، فكان النظام، بشكل من الأشكال، هو من يختار لك اسم ابنك أو ابنتك، وقد نص هذا القانون وبوضوح على منع جميع الأسماء الأمازيغية القديمة التي سبقت تاريخ وصول الإسلام إلى شمال أفريقيا، أي منع جميع الأسماء التي تعود إلى فترة الجزائر النوميدية أو الرومانية وغيرها. وقد شنت حركة المجتمع المدني بخاصة في منطقة القبائل مقاومة شديدة ضد هذا القانون، حتى أن بعضهم رفض تسجيل اسم مولوده على سجلات الحالة المدنية، والبعض اختار لطفله اسمين، اسم اجتماعي به ينادى وبه يعرف واسم إداري، وقد عرفت المحاكم كثيراً من الشكاوى التي رفعها المواطنون ضد الدولة لأنها كانت تحرم الأسر حقها في اختيار اسم لأبنائها.

ومع التعددية الحزبية وظهور أحزاب قوية تقودها وجوه سياسية معروفة، خصوصاً في منطقة القبائل، تمكنت هذه الأخيرة من إسقاط القانون الذي يحدد قائمة الأسماء، وكرد فعل هوياتي على هذا المنع، عاد الجزائريون إلى أسماء أمازيغية من قرون سابقة عن الإسلام ومنحوها لأبنائهم وبناتهم، بالتالي ظهرت موجة كبيرة من الأسماء التي لم تكن متداولة، ومن أمثلة ذلك: تاكفاريناس، يوبا، كاهنة، ديهيا، نيليا، آنيا، مايا، لونا، سيلا، داميا، فريزة، لويزا، جيجيغا، تامينا، يوغورطة، أمازيغ، أنزار، أيلان، أريس، أدال، أداس، أفولاي، أكسيل، إغلاس، سيفاكس، يغموراسن، آزار…

ولكن موجة أخرى ستهز سلم الأسماء في الجزائر وهذه المرة ليست قادمة لا من حرب التحرير ولا من الإسلام السياسي ولا من النضال الهوياتي الأمازيغي، إنها موجة أسماء من تأثير المسلسلات التركية التي شكلت تأثيراً واضحاً في الذوق الجزائري، بخاصة في أوساط العائلات المتوسطة وتلك التي لها جزء معتبر من الثقافة والتعليم، وقد اخترقت قائمة الأسماء الجزائرية المعروفة، سواء الأمازيغية أو العربية أو الإسلامية، فظهرت أسماء من أمثال: نور، بادي، إليف، سيرين، سوزان، كاميلا، سامو، ليليا، سوسو، فرح، سلاف، ميري، رفعت، رأفت، هيام، بذور، فلة، ياقوت…

في هذا العصر المحتدم، ومع تصاعد سلوك العنصرية وثقافة الكراهية وأشكال العنف والعنف المضاد، نجد بعض الأفراد يلجأون إلى تبديل أسمائهم بمجرد الانتقال من جغرافيا سياسية أو ثقافية أو دينية إلى جغرافيا أخرى مختلفة، حتى لا يكون الاسم علامة وطريقاً لموقف عرقي أو ديني مسبقين.

إن الظلال الأيديولوجية لأسمائنا، والتي هي في نهاية المطاف تعبير عن معارك سياسية وطائفية ودينية وهوياتية، قد تجعل المسمّى في لحظة تاريخية من حياته وفي بلد غير البلد الذي خلق له والذي فيه منح هذا الاسم أو ذاك، مضطراً لتغيير اسمه حتى يتحرر من ثقل الاسم ورمزيته وشحنته الأيديولوجية الزائدة والمكشوفة، وهو ما حدث لكثير من المواليد الذين أطلق عليهم آباؤهم اسم “صدام” مع موجة التعاطف المستلب مع هذا النظام في فترة معينة، في كثير من البلدان العربية وشمال أفريقيا، والأمر نفسه مع اسم أسامة حيث كثير من المتعاطفين مع زعيم القاعدة بن لادن منحوا أبناءهم هذا الاسم لكن وبعدما اكتشفت جرائم هذا التيار الخطير، اضطر الكثيرون إلى تغييره.

أسماؤنا لا تسقط من السماء، إنها مرآة تاريخنا في محطاته الجريحة والبهيجة أيضاً.

www.independentarabia.com