منذ انطلاق تجربة الشاعر أحمد سويلم الشعرية منتصف الستينات من القرن الماضي بصدور ديوانه الأول “الطريق والقلب الحائر” عام 1967 لم يفارق حضوره الفاعل والقوي المشهد الشعري والثقافي المصري والعربي. تجربة جمعت بين الكتابة والمسؤوليات الثقافية. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعر، في محاولة للتعرف على مسيرة تمتد إلى ما يزيد عن نصف قرن من الإبداع والعمل الثقافي العام.
توالت التجليات الفنية والجمالية لتجربة أحمد سويلم الشعرية لتخلق عالما خاصا في رؤيته ومتفردا في نسيجه تمثل في أكثر من عشرين ديوانا، وتمتد إلى المسرح الشعري والشعر الموجه للأطفال والنقد، وإضافة إلى كتابة الشعر شارك سويلم في الحياة الثقافية في العديد من المسؤوليات كمسؤوليته عن إدارة النشر بمؤسسة دار المعارف وترؤسه لسلاسل إبداعية بمؤسسات وهيئات وزارة الثقافة ومثل كتاب مصر وشعرائها في المهرجانات الدولية والعربية.
وقد نال سويلم خلال مسيرته الكثير من الجوائز منها جائزة الدولة التشجيعية في الشعر، جائزة الدولة للتفوق في الآداب، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب، والدكتوراه الفخرية في الآداب من الأكاديمية العالمية للثقافة والفنون “كاليفورنيا”، وجائزة كافافيس 1992، وغيرها.
مسيرة شاعر
يقول سويلم “أنتمي إلى جيل عايش التحولات الاجتماعية والسياسية منذ الستينات حتى اليوم. وكنت أحد صانعي نصر أكتوبر على جبهة القتال، ولابد أن لكل مبدع من هذا الجيل تجربته الخاصة ومعاناته أمام التحديات التي واجهته. أما عن تجربتي الخاصة فقد قررت منذ البداية أن يكون لي صوتي الخاص وألا أنتمي إلى أي تيار أو جماعة تحمله وتدفعه إلى مكانة خاصة. بل أردت وصممت على أن أحفر مسيرتي في الصخر بأظفاري، وأن أنتمي إلى مشروعي الإبداعي الخاص مهما طالت فترة التجريب وابتعدت الشهرة. لثقتي أن ما أغرسه بيدي أقوى وأشد وأكثر صدقا وتأثيرا مما يغرسه لي غيري”.
ويتابع “حينما قررت أن أنشر أولى قصائدي أرسلتها في بداية عام 1964 إلى مجلة بيروتية، فنشرتها دون أن يتوسط لي أحد، فحملت هذه القصيدة المنشورة إلى الدكتور عبدالقادر القط رئيس تحرير مجلة الشعر الذي اقتنع بإبداعي وطلب مني قصائدي لينشرها في المجلة. وكانت بداية لنشر أشعاري في كل مكان. وحينما أشار علي أصدقائي عام 1967 أن أصدر أول دواويني اخترت 18 قصيدة فقط من عشرات القصائد الَمنشورة، لأقدم نفسي إلى قارئي بأفضل ما أبدعت. وأحدث هذا الديوان صدى طيبا في الساحة الإبداعية. وكان نقطة انطلاق لطاقتي المختزنة معتمدا على هذه البداية الموفقة. وذلك في مجالات الشعر قصيدة ومسرحا ودراسات وكتابة للأطفال“.
ويضيف “حاولت أن أجعل تجربتي تتميز بالتنوع في إطار الشعر، وما دام الشاعر مخلصا لإبداعه، ويملك طاقته المتفردة المتجددة الثرية، فلن يلجأ إلى التكرار، فأنا أكتب اللونين العمودي والتفعيلي، لكنني أقرب إلى التفعيلي، وحتى في شكل التفعيلة تجدني أنوع وأبتكر أساليب عروضية مختلفة مثل القصائد المدورة، والقصيرة، والممزوجة ما بين العمودية والتفعيلة وغير ذلك. ثم تراني أكتب المسرح الشعري، وهذا باب آخر للتنوع والتجدد، وأكتب الدراسات الأدبية والنقدية وهذا يفيدني على المستوى المعرفي، وأكتب شعرا ومسرحا شعريا للأطفال. وأزعم أن هذا التنوع الذي يربو على مئة وعشرين إصدارا يبعد المبدع عن التكرار ويحفظ له طاقته الإبداعية المتجددة”.
ويلفت سويلم إلى أن “هناك من يتنكر لديوانه الأول ويتمنى أن يحذف من تاريخه، باعتبار أن البدايات دائما يشوبها الضعف والانفعال التلقائي. ولقد كنت منتبها لذلك، فقد ظللت أنشر قصائد متفرقة داخل وخارج َمصر خلال ثلاث سنوات من 1964 إلى 1967 حرصا مني على تقدير قارئي، وحينما صدر ديواني الأول ‘الطريق والقلب الحائر‘ كتب عنه الدكتور عبده بدوي وناقشه في برنامج مع النقاد بالإذاعة الدكتور عبدالقادر القط والشاعر صلاح عبدالصبور، أكبر قامتين في الوسط الأدبي، مما جعلني أخطو بثقة في عالم الإبداع مسلّحا بآراء النقاد الكبار، وإلى الآن تجدني أحاسب نفسي حسابا عسيرا حينما أنشر قصيدة جديدة، بل أسقط كثيرا من القصائد حينما أعد ديوانا جديدا للنشر حتى يظل قارئي في انتظار إبداعي وأحظى بتقديره وثقته الغالية”.
قصيدة النثر
ويشير إلى أن قصيدة النثر ظهرت في الستينات من القرن الماضي في وقت تبلورت وتحددت فيه ملامح قصيدة التفعيلة ومرونة تشكيلاتها، وهكذا بدأ التنافس بين الشكلين، بل وجدنا أنصار قصيدة النثر يتنكرون إلى كل أشكال القصيدة طوال عصور الشعر المختلفة الماضية، وليتهم قدموا أنفسهم على أنهم أصحاب رافد إبداعي جديد من حقهم أن يعبروا عنه بحرية.. ومنذ ظهر هذا الشكل حتى الآن لم يصل النقاد ولا أصحابه المبدعون إلى ملامح محددة تميزه مثلا عن الخاطرة النثرية الفنية أو الأقصوصة الصغيرة، أو التعبير النثري المكثف عن موقف ما.
ويوضح سويلم “أعترف بحرية المبدع في كتابة ما يشاء ما دام صادقا في إبداعه، لكن ربما أعترض على مسمى ‘قصيدة النثر‘ لأنه لا ينطبق على هذه النصوص انطباقا تاما، خاصة أن النثر يعد فنا في العربية لا يقل تأثيرا عن الشعر. وقد لاحظت أخيرا تحول بعض الذين يكتبون هذا الشكل، إلى كتابة القصة أو الرواية، أو العودة إلى شعر التفعيلة”.
ويرى أن ظهور شعر التفعيلة صاحبه تيار نقدي نظر له ووضع ملامحه الفنية. ثم تتابعت أجيال النقاد مؤكدة قدرة هذا الشكل على الاستمرار والإضافة، ثم انحسرت الموجة أو تكاد، وصار النقد مجرد انطباعات وآراء ومجاملات لا يرتكز غالبا على المنهج والتأصيل، وهذه الحالة قد تصيب المبدع بالكسل الإبداعي، وقد يلجأ إلى التوقف أو التحول إلى جنس آخر من الإبداع أكثر اهتماما من النقاد.
الحركة الثقافية
يعترف سويلم أنه طوال تجربته الشعرية وبرغم احتفال أجيال النقاد بأعماله لم يتأثر بانحسار موجة النقد، ما دام قارئه يحتفل بما يقدم له من عصارة طاقته الإبداعية.
ويقول “كان هناك في الستينات من القرن الماضي عدد كبير من الصحف والمجلات الأدبية والثقافية المتنوعة واكبت الحركة الإبداعية في جميع المجالات. وظل الأمر كذلك في السبعينات وبداية الثمانينات، ثم بدأ ذلك ينحسر شيئا فشيئا حتى صرنا اليوم فقراء في وجود الصحف والمجلات الأدبية، وضاقت الصحف عن المتابعة والتأصيل. وتلك معاناة عاناها المبدعون فهم يكتبون وينشرون أعمالهم في كتب حيث صار نشر الكتب ميسرا. لكنهم لا يحظون حتى بنشر خبر تحريري عن أعمالهم إلا في القليل النادر. إن الصحافة الأدبية تمثل جانبا مهما من الرسالة الإعلامية، وفي غيابها أو ندرة وجودها لا يتحقق هذا التواصل المنشود بن المبدع والمتلقي، ومن ثم قد يقوم المبدع بالترويج لنفسه، وإحداث هذا التواصل وهذا أمر مرهق حقا يضيف للمبدع معاناة أخرى بجانب معاناة التجربة الإبداعية”.
ويؤكد سويلم أن المسرح الشعري فن صعب لا يقدر عليه إلا القليل. فنحن هنا أمام معادلة صعبة هي كيف يتحقق التوازن بين لغة الدراما ولغة الشعر بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى. لهذا فإن الشاعر الذي لا يملك حلا لهذه المعضلة تفلت منه السيطرة على هذا اللون من الكتابة، وهذا هو السر وراء قلة النصوص الشعرية التي كتبت في المسرح. فإذا تساءلنا عن إمكانية عرض هذه النصوص على خشبة المسرح واجهتنا مشاكل أخرى كثيرة تتعلق بالكوادر الفنية القادرة على تقديم العمل وكذا الإحساس باللغة الشعرية.
ويلفت إلى أنه أحد المتابعين عن كثب للمشهد الشعري “لا يكاد يمر شهر دون أن أناقش شاعرا متحققا أو أقدم شاعرا شابا جذبتني تجربته. وقد جمعت أخيرا عددا من هذه الدراسات وصدرت في سلسلة: دراسات أدبية عن الهيئة العامة للكتاب بعنوان ‘إشراقات في سماء الشعر’، وفي خطتي أن أنشر بقية الدراسات تباعا في كتب”.
ويعتقد سويلم أن “الحراك الثقافي يعتمد على عناصر متعددة يمكننا الحكم على تأثيره من خلال فاعلية هذه العناصر؛ منها المناخ السياسي السائد ومدى ترحيبه بحرية التعبير وحقوق الإنسان، ومنها التحولات الاجتماعية التي من شأنها تحقيق العدالة في كل المجالات، ومنها مكانة الثقافة في نظر السلطة وهل هي عامل مؤثر في صنع القرار أم أنها هامشية. ومنها الإعلام ومدى ترحيبه بالثقافة والمثقفين وما إذا كان موجها أم حرا. ولا بد أن كل أوان يحمل عبق هذه العناصر، لكنه في النهاية يرسم خارطة خاصة للحراك الثقافي واضحة الملامح، وتبرز مدى تأثير هذا الحراك في المسار السياسي والاجتماعي”.
ويضيف الشاعر “في الستينات من القرن الماضي كانت الساحة الثقافية تموج بهذه العناصر وكان لها وزنها في معادلة الحراك، وظهر رجل مثل ثروت عكاشة التف حوله المفكرون والمثقفون، وبدأ يحمل مسؤولية هذا الحراك في المجالات المتعددة، فأقام المنشآت الثقافية والمجلس الأعلى للفنون والآداب، ودعم معرض الكتاب، واهتم بالآثار والحضارة المصرية، ونقل معابد فيلة، واهتم بصناعة الكتاب وجعله بسعر رغيف الخبز، وأصدر عددا كبيرا من المجلات المتنوعة، واهتم بثقافة الرجل العادي من خلال الثقافة الجماهيرية، والسينما والمسرح والفن التشكيلي، وغير ذلك. كانت نقلة ثقافية ملحوظة أحدثت حراكا ثقافيا، وكان وجود جيل العمالقة من المفكرين والأدباء عاملا مهما في هذا الحراك”.