رغم ما بيننا من محبَّةٍ لم أُجْر حوارًا واحدًا مع محمود درويش، لكنَّنى سألتُهُ مئاتِ الأسئلةِ، وتحدثنا فى موضوعاتٍ شتَّى، وليس لدىَّ سببٌ لأذكرهُ عن لماذا لم أحاوره، رغم أنَّنى حاورتُ أحمد عبدالمعطى حجازى، ومحمد الماغوط، وأدونيس، ونزار قبانى وغيرهم طبعًا.
هل لأنَّه الأقربُ لى شعريًا؟ ربَّما.
هل لأُحافظَ عَلَى المسافةِ بين حَرْفٍ وآخر؟ ربَّما.
وربَّما أشياء أُخرى كثيرة.
لكنَّنى كُنْتُ دائمَ الحديثِ عنه فى كلِّ مجلسٍ، وإذا ما كان هناك موضوعٌ مَثَار جَدَلٍ حولَهُ فى الصحافة العربية، أُشَارِكُ فيه بالرَّأى والكِتَابَةِ.
١٩٤١
فَتَحتُ صفحات مجلة «نصف الدنيا»- التى تصدرها «الأهرام» أسبوعيًا- حيث أعملُ نائبًا لرئيس التحرير، لنشر سلسلة من الحواراتِ معه أَتَتْ من دولٍ عربيةٍ شَتَّى.
كما كان أحد الكبار فى برنامجٍ تليفزيونى شاركتُ فيه، أنتجتْهُ قناةُ النِّيل الثقافية، وقد تحدَّثَ فيه درويش عن أشياء جديدةٍ ومختلفةٍ وزوايا مغايرةٍ لا يعرفُها عنه جمهورُهُ.
أصدقاؤنا المشتركون حاوروه، ربَّما أكثر من مرَّةٍ، وجاءت حواراتهم وثائقَ مهمةً ستبقى طويلًا، ومن هذه الحوارات ما نُشِرَ فى كُتبٍ، لكنَّنى كُنْتُ أفعلُ أشياءً أُخْرى لمن أُحبُّ، ومحمود فى مقدمةِ هؤلاء من الشُّعراء، مِنْهَا دعوتى إياه إلى مكتبةِ الإسكندريةِ، إذْ أمضينا أَيّامًا مُهمةً: محمود وصبحى حديدى وأنا، كُنَّا فى ضيافةِ الإسكندريةِ برعايةِ وحبِّ صديقى د. يوسف زيدان، مدير مركز المخطوطات بمكتبةِ الإسكندرية، وَدَعَوْنَا على الحجَّار ليغنِّى من شِعْرِ محمود، وجاء أصدقاؤنا الشُّعراء والصحفيون والنقَّاد والكتَّاب من القاهرةِ.
وكانت أيام محمود فى الإسكندرية فى مايو ٢٠٠٣ ثريةً وخاصَّةً ومحتشدةً بالذكرياتِ والشِّعرِ والفَيْضِ والتذكُّرِ والحنينِ إلى مصر، والسبعينيات من القرن الماضى، حيث عاش محمود فى القاهرةِ، التى كانت أوَّلَ مدينةٍ عربيةٍ يراها بعد خروجِهِ التاريخى من فلسطين.
قررتُ وكان معى المصوِّر الصَّحفى محمد حجازى، أن أُسَجِّلَ هذه الأيامَ بالقلمِ والكاميرا. وأعلمتُ محمود بأنَّنى سأدوِّن كُلَّ ما يذكرُهُ، وأخرجتُ من جيبى قلمى الأَسْوَدَ، ومفكَرةً صغيرةً قرمزيةَ الَّلونِ، عثرتُ عليها بسهولةٍ يوم السبت التاسع من أغسطس ٢٠٠٨ «تاريخ رحيل محمود فى مدينة هيوستن الأمريكية».
ويوم السَّبت هذا حدَّده محمود من قبل فى كتابِهِ الأخيرِ «أثر الفراشة» موعدًا لموتِهِ، إنه استشرافٌ مثيرٌ وشفيفٌ فى آنٍ:
«صدَّقتُ أنِّى مِتُّ يوم السَّبتِ،
قلْتُ: علىَّ أن أُوصِى بشىء ما
فلم أَعْثُرْ على شىء
وقلتُ: علىَّ أن أدعو صديقًا ما
لأخبرهُ بأنِّى مِتُّ
لكنْ لم أجدْ أحدًا
وقلتُ: علىَّ أَنْ أمضى إلى قبرى
لأملأَهُ، فلم أجد الطَّريقَ
وظلَّ قبرى خاليًا منِّى»
إلى نهايةِ القصيدةِ التى عنوانها «إجازةٌ قصيرةٌ» كأنَّ محمود كان يُشيِّعُ نَفْسَهُ يوم كَتَبَ هذه القصيدةَ بين صيف ٢٠٠٦ وصيف ٢٠٠٧ «هو لم يحدِّد. لأنَّه غالبًا لا يؤرِّخُ قصائدَه ولا يحدِّد أمكنةَ كتابتها، خصوصًا فى سنواتِهِ الأخيرةِ».
«وأُشيِّعُ نفسى بحاشيةِ من كمنجاتِ إسبانيا
ثُمَّ
أمشى
إلى المقبرة».
«لم أكتب السَّطْرَ الأخيرَ من الوصيّةِ،
لم أُسَدِّد أىَّ دَيْنٍ للحياة».
«وَطَارَ الموتُ من لُغَتى إلى أشغالِهِ».
كأنَّ محمود فى كتابهِ الأخيرِ «أَثَرُ الفَرَاشَةِ»، كان يودِّعنا، يودِّع لُغته، مَاءَ قصيدتِهِ، صَوْتَهُ فى رنَّة الذَّهَبِ حينما يَنْزِلُ من نَارِهِ.
وَافَقَ محمود أن أدوِّنَ، دُونَ أَنْ أخدشَ صَمْتَهُ، أو استرسالَهُ، وكان يتحدَّثُ دون أَنْ أَعِدَ بالنَّشْرِ قريبًا. ومحمد حجازى يُصوِّرُ، ولم نَنْشُرْ صورةً أو كَلِمةً واحدةً قبل موتِهِ.
وظلَّت الذكرياتُ محفوظةً بتدوينها الأولىِّ فى مفكِّرتى، وأنا أَسَاسًا لا أستخدمُ المفكِّراتِ فى التدوينِ، وهى المرَّةُ الأولى فى حياتى التى أدوِّنُ فيها لصديقٍ، فَأَنَا عادةً أدوِّنُ لنفسى فى رحلاتى فقط، أو فيما يتعلَّقُ بشعرى.
وما سأكتبهُ الآَنَ ليس كُلّ ما دوَّنتهُ، لأنَّ بَعْضَ ما قال محمود، لا يجوزُ أَن يُنْشَرَ الآنَ، لكنَّه قَال، ويدركُ أَنّهُ سَيُنْشَرُ يومًا ما، كأنَّ عبئًا ما كان يحملُ، هى وجهاتُ نَظَرٍ أراد أن يقولَها حتَّى لو عَرفَها شَخْصٌ واحدٌ على هذه الأرض، هو أنا.
بدأتُ التدوينَ فى يوم الخميس الثانى والعشرين من مايو ٢٠٠٣ ميلادية. وسأكتفى بأجزاء مما دوَّنتُ، كىْ يتعرّفَ قارئُ محمود جَوَانبَ من حياتِهِ الشخصيةِ.
وسأعلِّق أحيانًا لأضِىءَ، أو أضيفَ، كى يكتملَ المشْهَدُ «مع أنَّ المَشَاهِدَ تظلُّ دومًا ناقصةً حتَّى بعد مَوْتِنَا».
١- أعشقُ صوتَ الشِّيخ عبدالباسط عبدالصَّمد «عادةً ما يقومُ محمود من نومه فى التاسعةِ صباحًا، ويتناولُ قهوته مضبوطةً و(من غير وش) على حدِّ تعبيره». ولا يتناولُ إفطارَهُ فى مطعم الفندق إذا كان على سَفَرٍ، إذْ يفضِّل الأكلَ فى الغرِفةِ، وهو عمومًا لا يأكلُ كثيرًا. ولا يأكلُ الأرزَ.
٢- فى أوائل عام ١٩٧١ جاء محمود إلى مصر، حيث كان يسكنُ فى حى جاردن سيتى فى وسط المدينةِ، وقبل ذلك كان نزيلًا فى فندق شبرد، وعمل فى جريدة الأهرام، وكان يتقاضى راتبًا قدره «مائة وخمسون جنيهًا مصريًا»، وكان مكتبه فى الطابقِ السَّادسِ من برج الأهرام مع كُتَّابِ الأهرام نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، ولويس عوض، وزكى نجيب محمود، وبنت الشاطئ، وآخرين.
وفى تلكَ الفترةِ زار بورسعيد والإسماعيلية والسويس والأقصر وأسوان، «نزل فى فندق كتراكت»، والإسكندرية إذْ حَضَرَ حَفْلًا لعبدالحليم حافظ، وكان يشدو وقتذاك بأغنية «مدَّاح القمر»- كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدى «٧ من أكتوبر ١٩٣٢-١٧ من سبتمبر١٩٩٣»- أى قبل ست سنوات من موت عبدالحليم «٣٠ من مارس ١٩٧٧ ميلادية».
وكانت رحلة محمود درويش هى الثالثة إلى الإسكندرية، أمَّا الرابعة فكان مُحَدَّدًا لها فى أكتوبر أو نوفمبر ٢٠٠٨، خمسة عشر يومًا، وسبع أمسيات شعرية، وتسجيل ما تيسَّر من شعره على سبع أسطوانات DVD فى استديو مكتبة الإسكندرية، على أن تُهدى المكتبةُ هذه التسجيلات إلى مكتباتِ العالم والمراكزِ الثقافيةِ فى كلِّ مكان.
يقول د. يوسف زيدان: قلتُ له: سأرتِّب لك إقامةً فى قصر السلاملك، فهو أفضلُ مكانٍ بالإسكندرية يليقُ بالشُّعراء. فقال: ليس هذا هو المهم، المهم أن تدعوَ أحمد الشّهاوى ليكونَ معنا.. قلتُ: سوف أعتقلُهُ فى الإسكندرية طوال أيامِ بقائِكَ بها، ولن أسمحَ له بالخروج منها ما دمتَ موجودًا، ضحك محمود درويش، وقال ما نصّه: «هذا جيِّدٌ، حتَّى نسترجعَ ذكرياتِ الزيارةِ السَّابقةِ».
٣- فى المرَّة السابقة مايو ٢٠٠٣، نزل محمود فى الغرفة رقم ٣٠٨ بفندق سيسل «تأسَّسَ عام ١٩٢٩» بجوار غرفة أم كلثوم «٤ من مايو ١٨٨٩- ٣ من فبراير ١٩٧٥»، وهى الغرفة التى كانت تقيم فيها وقد أحبَّ محمود هذا الفندقَ، أو تلك الإقامةَ لأسبابٍ كثيرةٍ، منها أنه قريبٌ من بيت الشَّاعر اليونانى السكندرى قسطنطين كفافيس «٢٩ من أبريل ١٨٦٣- ٢٩ من أبريل ١٩٣٣» وأنه- أيضًا- شهد كتابةَ لورانس داريل «٢٧ من فبراير ١٩١٢- ١٩٩٠» لـ«رباعية الإسكندرية»، كما أنَّ بعض غُرَفِهِ تحملُ أسماء فنانين وكُتَّابٍ ومبدعين نزلوا فيه، ويحبُّهم محمود أو شَاهَدَ أعمالهم وهو المُتيَّمُ بالسينما: عمر الشريف، طه حُسَيْن، أجاثا كريستى وغيرهم.
وبمناسبة كفافيس الذى زرنا بيته «متحفه»، وكلانا حصل على جائزة كفافيس فى الشِّعر، فقد طلبتُ منه كتابةَ كلمةٍ فى «دفتر سجل الزيارات»، كما جرت العادةُ مع كبار الزائرين، فكانت كلمته مدهشةً: «زرتُ اليومَ غيابَ الشَّاعر قسطنطين كفافيس، فوجدته حاضرًا بأشيائِهِ الصُّغرى فى المكان، ولكنَّه حَاضِرٌ أكثر فى شِعْرِهِ العظيم، لأنَّ مَكَانَ الشَّاعر الحقيقى والطبيعى هو القصيدةُ فقط التى يضيقُ بها المكان».
«وكانت زيارة محمود يوم الجمعة، الثالث والعشرون من مايو ٢٠٠٣».
أما أجملُ الأسبابِ لفرحِ وابتهاجِ درويش بإقامتِهِ، فهو بسببِ تجاور غرفتِهِ غرفة أم كلثوم، وهى بالنسبة إليه «إدمان الوحيد».
قال لى: «أم كلثوم معجزةٌ وهى من الظَّواهرِ الكونيةِ عبقريةٌ خَارِقَةٌ صوتُها فيه قوةٌ تعبيريةٌ». حدَّثتُ محمود عن انزعاجى من كتاب «الهَوى دون أَهْلِهِ»، الذى كتبه حازم صاغية، وهو كتابٌ فى ذَمِّ أم كلثوم.
وبعد سنواتٍ فاجأنى محمود بنصِّه المدهشِ فى كتابِهِ الأخير «أَثَرُ الفَراشَةِ»، عن أم كلثوم أسماه «إدمان الوحيد»: «أستمعُ إلى أم كلثوم كلّ ليلةٍ، منذ كان الخميسُ جوهرتَها النادرةَ، وسائر الأيام كالعقدِ الفريدِ، هى إدمانُ الوحيدِ، وإيقاظُ البعيدِ على صهيلِ فرسٍ لا تُروَّض بسرجٍ ولجامٍ، نسمعها معًا فنطربُ واقفين وعلى حدة فنظلُّ واقفين.. إلى أن تُومئَ لنا الملكةُ بالجلوسِ فنجلسُ على مترٍ من ريحٍ.
تقطِّعنا مقطعًا مقطعًا بوترٍ سحرى لا يحتاجُ إلى عودٍ وكمانٍ.. ففى حنجرتها جوقةُ إنشادٍ وأوركسترا كاملة، وسرّ من أسرار الله، هى سماءٌ تزورنا فى غيرِ أوقاتِ الصلاةِ، فَنُصلِّى على طريقتها الخاصة فى التجلِّى، وهى أرضٌ خفيفةٌ كفراشةٍ لا نعرفُ إن كانت تَحْضرُ أم تغيبُ فى قطرةِ ضوءٍ أو فى تلويحةِ يدِ الحبيب. لآهتها المتلألئةِ كماسةٍ مكسورةٍ أن تقودَ جيشًا إلى معركةٍ.
ولصرختها أن تعيدَنَا من التهلكةِ سالمين، ولهمستها أن تُمْهِلَ الَّليْلَ فلا يتعجَّلُ قبل أن تفتحَ هى أولًا بابَ الفَجْرِ..
إلى آخرِ النصِّ الذى أدعو حازم صاغية إلى قراءته علَّه يعيدُ النَّظَرَ فى كتابه الذى لم يُكتب له «النجاح» الذى أراده له.
هل قُلْتُ إنَّ درويش ونحن خارجان من بيتِ كفافيس الذى صار مُتْحَفًا، قال لى إن «كفافيس قَضَى على الأقلِّ على ثلاثين شاعرًا عربيًا».
ومقولته واضحةٌ، وخطيرةٌ وَدَالَّةٌ وحقيقيةٌ، لكنَّه لم يُسْم أحدًا ممن قَضَوْا تحت «سنابك» كفافيس فى معركةِ التأثُّرِ والتقليدِ والمحاكاةِ.
كان محمود يعرفُ أنَّنى أحبُّ صوت عفاف راضى، وأنَّها قريبةٌ منِّى روحًا وَشَخْصًا فقال لى: «عفاف راضى صوتها خاصٌّ جدًا». بالمناسبةِ هو لم يحب صوت محمد فوزى «٢٨ من أغسطس ١٩١٨- ٢٠ من أكتوبر ١٩٦٦»، لكنَّه فاجأنى بحبِّه موسيقى أغنية «العتبة جزاز والسلم نايلو فى نايلو» التى غَنَّتها ليلى نَظْمى، وهى أغنيةٌ شهيرةٌ ذاعت بعد هزيمة ١٩٦٧ وهى من ألحان الموسيقار الطليعى على إسماعيل «الخميس ٢٨ من ديسمبر ١٩٢٢- الأحد ١٦ من يونيو ١٩٧٤».
كان مذياع السيارة التى تُقلُّنا- محمود وأنا- مفتوحًا على «إذاعةِ الأغانى»، وأطلَّ على آذاننا كمال حُسنى «١٩٢٩- أبريل ٢٠٠٥» بأغنيته «لو سلمتك قلبى واديت لك مفتاحه»، وحاول محمود أن يتذكَّرَ الأغنيةَ، باعتبارها من الأغنياتِ التى يحبُّها، والصَّادرةِ عن صوتِ كمال حسنى الذى يُحِبُّ.
وهذه الأغنيةُ وُضعت بمناسبةِ الوحدةِ بين مصر وسوريا عام ١٩٥٨ ميلادية.
٤- الشَّاعر ينضجُ فى الأربعين.
٥- أُفضِّلُ شِعْرَ أحمد شوقى فى المسرحياتِ والغزلياتِ، وهو من أمتن الشُّعراءِ فى القرنِ العشرينِ، لقد تحقَّقَ شعر صلاح عبدالصبور فى المسرحيات، فالصنعةُ عنده مُحْكَمةٌ. لم أحب شِعْرَ حافظ إبراهيم.
٦- قال لى فى نَدَمٍ: «نشرتُ شِعْرِى مُبَكِّرًا».
٧- أَخْطَرُ شىء أَنْ يُقَرِّرَ الشَّاعرُ قصيدتَهُ سَلَفًا.
٨- سِياقُ المقطعِ الأوَّلِ هُوَ الذى يُقَرِّرُ القصيدةَ. وهذا هو الفَرْقُ بَيْنَ النَّظْمِ والكتابةِ. وأصعبُ قافيةٍ هى السَّهْلةُ، لأنَّها مُسْتَهْلَكَةٌ، ولا بدَّ عِنْدَمَا تستخدمُها أن تجدِّدَهَا.
٩- لم أقرأْ العَروض، ولم أتعلَّمْهُ، وليس لدىَّ كِتَابُ عَرُوض وَاحد. فيما بعد اطَّلعتُ على كتابٍ بسيطٍ فى العَرُوض. لم أتعلّم العَرُوضَ بتاتًا، كان ذلك بالسليقةِ، وقرأتُ- فقط- كتابًا لضبطِ القواعدِ، وَأُحسُّ أنَّ لدىَّ سَيْطَرةً على العَرُوضِ.
١٠- لا أكتبُ النَّصَّ فى نَفسٍ وَاحِدٍ.
١١- أَنَا من أَكْثرِ الشُّعراءِ نكدًا، فَأَنَا أكتبُ القصيدةَ أَرْبَع مرَّاتٍ.
١٢- معدَّل مَا أَنْشُرُهُ هو ثلثا ما أكتبُ، والثلث الآَخَرُ للإبادةِ، ولا يوجدُ نصٌّ شعرى شِبْه مُنَزَّلٍ، فَلا بُدَّ أَنْ تَعْمَلَ «كولاج ومونتاج».
١٣- أؤمنُ بالصَّنْعَةِ بَعْدَمَا تقومُ السَّليقةُ بدورها.
١٤- السُّلوك يُنْسَى «سُلُوكُ الشَّاعِرِ»، ولكنَّ النَّصَّ يَبْقَى.
١٥- إِذَا فَقَدَ الشَّاعِرُ أسلوبَهُ فَقَدَ شخصيتَهُ.
١٦- أُوقِفُ كتابًا لمصلحةِ كتابٍ آخَر.
«فى مسألةِ تأجيلِ نَشْرِ بَعْضِ كُتُبِهِ الجاهِزَةِ والمُنْجَزَةِ».
١٧- لدىَّ نظامٌ للفوضى. كلُّ شىء فى حياتى مُنظَّمٌ إلاَّ مكتبى، فَإِذَا رُتِّبَ أَضِيعُ. أُكَدِّسُ الجرائدَ والمجلاتِ، ثم بعد عامين أرميها، إنَّ أصعبَ شىء علىَّ ترتيب الأوراقِ والمكتبِ الخاصِّ بى.
١٨- لا أكتبُ حَرْفًا واحدًا بالَّليل، إنَّ ذروةَ العملِ عندى من العاشرةِ صباحًا حتَّى الثانيةِ ظهرًا، فأنا لستُ صديقًا لليل، مع أنَّه صديقٌ للشُّعراء.
١٩- ما لا أَرْضَى عَنْهُ من شِعْرٍ أَتَخلَّصُ مِنْهُ نهائيًا، إلا ما أرى فيهِ أنه قد يَصْلُحُ فى عَمَلٍ آخَر. وما لا نَرْضَى عنه هو «عورات الشُّعراء» فلا ينبغى أن تظهرَ على النَّاس.
٢٠- نتأخَّرُ أَحْيَاءً، وَلاَ نَصِلُ مَوْتَى، «فى مَسْأَلَةِ قَلَقِ المُسَافِرِ. كان محمود يطلبُ من السَّائِقِ أن يقودَ السيَّارةَ بسرعةٍ تتراوحُ بين تسعين إلى مائة كيلومتر فى السَّاعة، ولم أر شاعرًا قَلِقًا مِثْل محمود درويش فى حياتى».
٢١- فى الرابع والعشرين من مايو ٢٠٠٣ ذهبنا إلى أحد أشهر مطاعم الأسماك فى الإسكندرية وهو «سى جل» بمنطقة الماكس، وجلسنا على المنضدةِ رقم ١٣١، وكان شعار المطعم «من البحرِ إلى المائدة»، فقال محمود مُعَلِّقًا- وهو السَّاخر العظيم لمن لا يعرفُ- «من البَحْرِ إلى المَعِدَة».
٢٢- قال محمود درويش عنِّى:
«إنَّ الشّهاوى مَحْبُوب وَمَرْغُوب».
لا تزالُ مفكرتى القرمزية بلونِ دم شَفِقِ الأيامِ مَـلأَى بذكرياتٍ، وحِكَمٍ، وآراءٍ، وقفشاتٍ، ونكاتٍ، وعوالم محمود درويش لكنَّ بَعْضَ مَا دَوَّنْتُ هَلْ أَنْشَرُهُ، أَمْ أَنْتَظِرُ، أم أَحْفَظُهُ فى روحى إلى أَنْ أرى محمود، بَعْدَ أَنْ تموتَ أشيائى التى لن تُدْفَنَ معى يَوْمَ أَمُوتُ، لأنَّها لا تموتُ مِثْلى؟
جريدة الدستور